قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن الغوث بن قطن ولي الملك في حياة أبيه، وبعد وفاته دهراً طويلاً، فكان من أحسن الملوك سيراً، وأثبتهم على سنن آبائه وأجداده، وكذلك كان ابنه وائل بن الغوث بن قطن بن عريب حين ولي الملك بعده.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن الغوث بن قطن كان وصى ابنه وائل بن الغوث، فقال له: يا بني، إن الملك دار بناها الله لأسلافك، فعمروها بالعدل والإحسان، فكانت الروائح إليها تروح، والسوام منها تسرح، كذلك ورثتها عمن قبلي، وكذلك أخلفها لك، فعليك بعمارتها كما كان يعمرها من أسلافك. واعلم أن الدار دار بنيت لها، مبنية حيطانها، ومشيدة أركانها. وما لم يقع فيها أو في شيء من بنيانها ثلمة، فإن الثلمة تتبعها مثلها، ولا يستقر إلا في حجرتها. وأوصيك بالرعاة خيراً، فإن السوام لا يصلح إلا بمراعاة المسيم.
وأنشأ يقول: " من البسيط "
المُلكُ دارٌ لمن بالمُلكِ يعمرها ... فمن يفوزُ بها من آلِ قحطانِ
مَنْ كان مِنهُم لهُ الإحسانُ يملكُها ... بما لها من عماراتٍ وسُكانِ
هل ساكن الدار لولا الدار يحفظُها ... إلا كَمَنْ حلَّ في صحراءَ غِيطانِ
وما عسى الدَّارُ لولا ما أحاطَ بها ... لعامرِ الدَّارِ من باب وبنيان
فإن تعاورها ثلمُ فساكنُها ... وساكنُ الفَدفدِ الفيفيِّ سيَّانِ
ما الدَّارُ إلا بِمَنْ يَحتلُّها وبِمَنْ ... توصِيه يَعهدُهَا مِنْهُ بعُمرانِ
وما عَسَى يجمعُ الرَّاعي إذا افترقتْ ... ليلاً عن الحِجرةِ المِعزَا مع الضَّانِ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب ساس الملك بعد أبيه سياسة حمده فيها أهل زمانه، وكذلك ابنه عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب حين ولي الملك بعد أبيه وائل بن الغوث، وسار بالناس بسيرة أبيه، وأجراهم على سنن أجداده وأسلافه. وعبد شمس بن وائل هو جد بلقيس بنة الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو، واسم عمرو معاوية بن المعترف، واسم المعترف علاق بن شدد بن القطاط بن عمرو، وعمرو دوانس بن عبد شمس، فما من هؤلاء القوم المسمين أحد إلا وقد ملك ما ملك عبد شمس وآباؤه من قبله. وأخبارهم تطول عند الشرح.
ثم انتقل الملك من هؤلاء القوم إلى حمير الأصغر وهو زرعة بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن فلس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث. وأخو زرعة سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن فلس وكان حسن السيرة في الناس حين ولي الملك، وكذلك كان ابنه شدد بن زرعة.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن زرعة بن كعب بن زيد بن سهل وصى ابنه شداد، فقال: يا بني، لو أن ملكاً يستغني بثاقب رأيه دون رأي الناس لفضل عقله وكمال معرفته وبارع أدبه وفطنته وعلمه بما تقدم من التجارب لأسلافه مع ما حفظه ورواه وأحاط به من سنن الأوائل من الآباء والملوك من قومه وسنن الماضين من الأجداد من أغنى الملوك عن مشاركة أهل الآراء ومشاورة الأقيال، ووصية الموصين، إلا أنه لا بد للملك من يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقله من ذلك. ولا بد للولد من وصية الوالد، قلَّت الوصية أم كثرت.
ثم أنشأ يقول: " من البسيط "
جرَّبت قَبلكَ أسباباً عَمِلتُ بها ... في المُلكِ بيني وبينَ النَّاس يا شددُ
فلمْ أجِدْ نجدةً في المُلكِ تكلؤهُ ... مثلَ النَّوالِ إذا ما قلَّتِ العُددُ
ولمْ أجِدْ طاعةً كالعدلِ إن نزعتْ ... عن طاعةٍ لمليكٍ في الأنامِ يدُ
والناسُ كالوحشِ إن دارأتم شرعوا ... وإن دنيت لهم عافُوا وما وَرَدُوا
متى أطاعكَ ساداتُ العشيرةِ لا ... يعصيكَ في الناسِ فاعلم بعدها أَحَدُ
دارِ الورى وذوي القُربى وجُدْ لهمُ ... بالخيرِ إنَّكَ مطلوبٌ بما تَجِدُ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن شداد بن زرعة بن كعب بن زيد ولي الملك دهراً طويلاً لم يعصه أحد من حمير ولا كهلان في ملكه الذي أحاط به بأكثر الأرض ومن فيها. ويقال إنه سار في الناس بسيرة آبائه، وأجراهم على سنن أجداده، وحفظ وصايا الأوائل من أسلافه، وعمل بها، وثبت عليها إلى أن توفي.