٥٠٢- وأما من قال إن عدد التواتر لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد فقد أسرف فإن التواتر يقع بدون ذلك وإذا أخبر جمع كثير في بلدة عن واقعة شاهدوها واستجمع إخبارهم الشرائط المرعية التي نحن في تفصيلها فيحصل العلم الضروري بإخبارهم وهم بعض من أهل البلدة والخروج عن إمكان العدد لا يعتبر شرطا وليس عدد معظم أهل الدنيا خارجا عن إمكان البشر.
فإذا بطلت هذه المذاهب ولم يبق إلا مذهب النظام فسندرجه في مجاري الكلام المشتمل على اختيار الحق.
٥٠٣- فإن قيل فماذا ترضون في ذلك؟
قلنا: الخوض فيما نؤثره يستدعي تقديم أمر وهو أن العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مرتبة على قرائن الأحوال وهي لا تنضبط انضباط المحدودات بحدودها ولا سبيل إلى حجدها إذا وقعت وهذا كالعلم بخجل الخجل ووجل الوجل ونشط الثمل وغضب الغضبان ونحوها فإذا ثبتت هذه القرائن ترتب عليها علوم بديهية لا يأباها إلا جاحد ولو رام واجد العلوم ضبط القرائن وصفها بما تتميز به عن غيرها لم يجد إلى ذلك سبيلا فكأنها تدق عن العبارات وتأبى على من يحاول ضبطها بها.
وقد قال الشافعي رحمه الله: من شاهد رضيعا قد التقم ثديا من مرضع ورأى فيه اثار الامتصاص وحركات الغلصمة وجرجرة المتجرع لم يسترب في وصول اللبن إلى جوف الصبي وحل له أن يشهد شهادة باتة بالرضاع ولو أنه لم يبت شهادته في ثبوت الرضاع ولكنه شهد على ما رأى من القرائن وأطنب في وصفها واستعان بالوصافين المعرفين فبلغ ذكر القرائن مجلس القاضي فلا يثبت الرضاع بذلك لأن ما سمعه القاضي وصف لا يبلغ مبلغ العيان والذي يفضي بالمعاين إلى درك اليقين يدق مدركه عن عبارة الوصافين ولو قيل لأذكى خلق الله قريحة وأحدهم ذهنا افصل بين حمرة الخجل وحمرة الغضب وبين حمرة المرعوب لم تساعده عبارة في محاولة الفصل فإن القرائن لا تبلغها غايات العبارات.
٥٠٤- فإذا تمهد ذلك قلنا لا يتوقف حصول العلم بصدق المخبرين على حد محدود وعدد معدود ولكن إذا ثبتت قرائن الصدق ثبت العلم به فإذا وجدنا رجلا مرموقا عظيم الشأن معروفا بالمحافظة على رعاية المروءات حاسرا رأسه,