[تمجيد القرآن الكريم للعقل]
والذي يقرأ آيات القرآن الكريم يجد فيها تمجيد العقل وتعظيمه، قال الله تبارك وتعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:٥] أي: لذي عقل، وسمي العقل حجراً لأنه يحجر على صاحبه، فلا يقع في القبائح، ولا في خوارم المروءة، وقال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:٤٣] ، وقال تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:٢٩] .
إذاً للعقل قيمة عظيمة جسيمة؛ لكن أين موقعه؟ وبمعرفة ذلك نهدم الصنم الذي نصبه المبتدعة أمام نصوص الوعد إن العقل صار صنماً يعبد، ووثناً يجب تكسيره؛ لأنهم وضعوه في مكانٍ ليس له.
وأنا قدمت بهذه المقدمة حتى لا يقال: إننا معشر أهل السنة والجماعة لا نعظم العقل ولا نحترمه، ولا نضعه في حسباننا، حاشا وكلا! لكن نضعه في مكانه.
المبتدعة لهم أوثان ومن أعظم أوثانهم وثن العقل جعلوا العقل قاضياً على كلام الأنبياء، فالعقل عندهم رقم (١) ، وكلام الرسول رقم (٢) فإذا خالف كلام النبي صلى الله عليه وسلم عقولهم ردوه.
والفخر الرازي، والجويني أبو المعالي هؤلاء ضلوا زماناً طويلاً بسبب عقولهم وتداركتهم عناية الله في آخر حياتهم وهم على فراش الموت، قال أبو المعالي: لقد خضت البحر الخضم، وخضت الذي نهاني عنه أهل الإسلام، وهأنذا أموت على فراشي كما تموت عجائز نيسابور، والويل لـ ابن الجويني إن لم يغفر الله لك وكان ابن الجويني من أذكياء العالم؛ لكن هذا الأمر زلت فيه أعظم العقول.
قلت في الجمعة الماضية: إنهم يحرفون كلام الوحي لصالحهم، قال قائلهم: إن إبراهيم عليه السلام ما اهتدى إلى ربه إلا بالعقل وكذب! فقصة إبراهيم عليه السلام تنادي بغير ذلك وهي معروفة في سورة الأنعام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:٧٦-٧٩] .
أين - في هذه الآيات- ما يدل على أنه اهتدى بالعقل؟! يكذب هذه الدعوة قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:٥١] .
(آتيناه رشده من قبل) : من قبل أن يفكر في هذه القضية أساساً، فالهداية نعمة من الله، ومنحةٌ إلهية ليس للعقل فيها دور أبداً.
ولذلك يخطئ الناس عندما يقولون: إن الله عرفوه بالعقل.
لا والله! لا يعرف ربنا بالعقل استقلالاً أبداً، لأن العقل قاصر على ما دخل تحت الحواس؛ ولذلك ما خرج عن الحواس لا يتخيله العقل ولا يستطيع وصفه ولا توصيفه، والعقل لا يستطيع وصف الجنة ولا وصف النار، ولا وصف الملائكة ولا الشياطين.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) كيف يصفه العقل إذاً؟! وقال ابن عباس: (ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء) فيها نخلٌ ورمان، هل هي كنخلنا ورماننا؟ لا.
فيها خمر لذة للشاربين هل هي كخمرتنا؟ لا.
فيها لبنٌ لا يتغير طعمه، هل هو كلبننا؟ لا.
فيها ماء غير آسنٍ، هل هو كمائنا؟ لا.
نعم فيها الاسم، لكن الجنس الوصف الطعم مختلف تماماً ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر فكيف يعقله المرء إذاً؟! نوافذ العقل على الدنيا هي الحواس والله تبارك وتعالى لا يقع تحت حاسة بشر، فكيف يمكن أن يهتدي العبد إلى ربه بعقله؟! أبداً.
الهداية منحة من الله ثم يأتي دور العقل ثانياً ليثبت هذه المنحة.
إذاً دور العقل أن يكون رقم: (٢) ، ولا يكون قبل النقل أبداً.
وإنما ضل أهل البدع بسبب أصلهم الفاسد، وهو تقديم العقل على النقل