بدأ الخلاف بالكتاب المشهور لشيخ الإسلام ابن تيمية: الفتوى الحموية الكبرى، قرر فيها مذهب السلف في الصفات، وأننا نمرها كما جاءت بغير تأويل ولا تفويض، وهناك فرقٌ بين التفويض والتأويل، لأنه حصل لبس في الاصطلاحات، فبعضهم يقول: كان الصحابة يفوضون معاني الصفات! لا.
من قال: إنهم كانوا يفوضون؟!! فالتفويض معناه: تمرير النص بلا فهم للمعنى؛ فمعناه أنه الصحابة كانوا جهلة، حملوا صفات الله ولا يعلمون عنها شيئاً:{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[المجادلة:١] سميع ماذا يعني؟ أو تقول: سميع وتسكت؟ الألفاظ قوالب المعاني، ولا يوجد لفظ بلا معنى، فما معنى: إن الله سميع؟ يقول: سميع فقط، هو فوَّض المعنى على ظاهر النص، لكن ترك التأويل هو في خلاف ذلك نقول: نمرها كما جاءت، نعم، لكن نثبت له سمعاً يسمع، كيف يسمع؟! لا ندري، فهذا هو الفرق، أنا تركت تأويل كنه الصفة وأثبت شيئاً يليق بالله تبارك وتعالى، لكن التفويض: لا.
ليس هناك إثبات معنى، وإنما هو إثبات اللفظ عارٍ عن المعنى، وما قال بهذا أحد من العلماء قط.
فشيخ الإسلام ابن تيمية جاءته رسالة من مدينة حماة -ولذلك سميت الفتوى الحموية- فكتب هذا الكتاب المدهش من حفظه ما بين الظهر إلى العصر، ونقل أقوال العلماء من كتبهم، ارجع إلى كتب العلماء تجده كما نقل بالحرف.
لا تندهش! فهناك ما هو أعظم من ذلك، ليس لـ ابن تيمية ولكن لتلميذ ابن تيمية النبيه، وارث علم ابن تيمية حقاً، وهو الإمام ابن القيم، مؤلف زاد المعاد في هدي خير العباد ألفَّه من حفظه وهو مسافر إلى الحج، وما معه كتاب، واعتذر في مقدمة الكتاب بأن الخاطر مشغول وهو على سفر كتب ابن القيم خمسة مجلدات عند استراحته ونزوله في الطريق.
فكتب شيخ الإسلام ابن تيمية الفتوى الحموية الكبرى، فقامت قيامة الأشاعرة والماتريدية وكل مبتدع، وبدأت المحن من هنا، فناظرهم وانتصر عليهم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بحرف يخالف مقال السلف: وكلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك إذا كان الأشعري يقول: أنا سلفي والماتريدي يقول: أنا سلفي والجبري يقول: أنا سلفي حتى الشيعي، كل ينتمي للسلف القدامى، فكلهم يدعي وصلاً بليلى، لكن عند المحك يظهر المدعي.
ألبوا عليه الأمير، فأمر العلماء أن يعقدوا مجلساً للوزراء، وجاء ممثل لكل مذهب من المذاهب الأربعة ممثل عن المذهب المالكي، وممثل عن المذهب الحنفي، وممثل عن المذهب الشافعي، وممثل عن المذهب الحنبلي، وبدءوا يناظرونه ويناظرهم، فانفض المجلس ولم يعثروا عليه حرفاً، إلا في بعض الألفاظ التي أطلقها، قالوا له: غيرها لكذا، ثم قال لهم بعد عدة مجالس: أنا أمهل كل من خالفني سنة أن يأتي بحرف عن أحد العلماء في القرون الثلاثة الأولى يخالف ما ذكرته، كان مدهش النقل! يقول الإمام الذهبي رحمه الله: له اليد الطولى في النقل، لدرجة أن الكل يتعجب من قوة استحضاره، حتى قال الإمام الذهبي -وهو العالم الكبير المشهور المحدث-: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث.
إذا قال لك ابن تيمية: أنا لا أعلم هذا الحديث، فابك عليه، ولن تجد له أصلاً، مع أن ابن تيمية لا يصنفه العلماء محدثاً بل يصنفونه فقيهاً، وهو في الحديث في هذه المرتبة.