أكثر ما يبعد القلب تعلق الرجال بالدنيا، له أعمال معينة يريد أن يحققها قبل أن يموت.
ولذلك يوشع بن نون عليه السلام لما خرج للغزو التفت إلى جنوده، وقال: لا يتبعني أحد ثلاثة منكم: لا يتبعني رجل بنى بيتاً ولم يضع سقفه، ولا رجلٌ بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا رجل له خلفات وهو ينتظر نتاجها، أي رجل متعلق بالدنيا إلا المقاتل إذا كان له أمل في الدنيا فإنه يضعف قلبه فيكون سبباً في الهزيمة؛ لكن الذي ذهب وخلف كل شيء وراء ظهره ناسياً كل حاجة، فهذا الذي يكون قلبه قوياً.
فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يكن عنده شيء يتعلق به أبداً، كان فقيراً لا يجد شيئاً، ولم يكن له زوجة ولا ولد، حتى يخاف عليهم ويقول لك: أخاف على مستقبل أولادي سيضيعون، ولم تكن له علاقة بأحد أبداً، كان عفيفاً متنزهاً، والناس الذين كانوا يحبونه يعطونه زكاة أموالهم بمئات الآلاف، وكان يوزعها كلها، ويرجع إلى بيته بغير درهم واحد؛ فالزهد ما لم يكن تصنعاً فهو حسن.
ولذلك فقد ذكر ابن الجوزي: أن بعض الصوفية يقولون: الثياب المرقعة أحد علامات الزهد، حتى ذكر أن شخصاً لبس ثوباً مرقعاً، قيل له: وما هذا؟ قال: هذا شباك الزهد أي: يلبس ثوباً مرقعاً ويقول لك: الرجل هذا من أهل الله، ويقول: يا مولانا! ادع لنا، ووصل الأمر بهم أنهم يأخذون الملابس الجديدة من مصر ويرقعونها رقعاً فتجدها كلها مرقعة؛ لأن الزاهد لابد أن يكون ثوبه هكذا مطرزاً بأنواع من الرقع.
فصار هذا شعاراً لهم، وهذا لاشك أنه لباس شهرة، ولو صار اللبس المرقع علامة على الزهد في بلد ما، فلو لبست مرقعاً يبقى لَبِس لُبس شهرة، وهذا لا يجوز، إنما الزاهد إذا كان فقيراً لا يجد ولا يتكلف أن يستدين، والزهد يكون له طعم إذا كان من الفقير.
رأيت منظراً لا أنساه أبداً، عندما ذهبت أقابل الشيخ العلامة الإمام الكبير الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، وما استطاع أحد أن يدخل عليه في مدة الحج؛ لأن الحراسة عليه مشددة؛ لأن الروافض الشيعة يريدون أن يقتلوه، فيقومون بحمايته، فكنت أسعى في مقابلته حتى وصلت إلى بعض تلامذته، فقال: أنا أدخلك عليه، وكنت أتصور الهيئة الجميلة والغترة الجديدة والعطر الفواح إلخ، المهم أني دخلت الخيمة فما وجدت أحداً، سألت: أين الشيخ؟ قالوا: خرج، خرجت من الباب الثاني أبحث عن الشيخ، فلقيت مجموعة حول رجل لو رأيته قلت: هذا حمال! لا تستطيع أن تعطيه مؤهلاً، يلبس ثوباً إلى نصف الساق، وهو متواضع في هندامه يميل إلى القصر، وبه سمرة.
قالوا لي: هذا الشيخ، عندما قالوا لي: هذا الشيخ، وقف شعري واقشعر بدني عندما رأيت هذا الرجل الذي دوخ الدولة كلها الشيخ عبد العزيز بن باز الدولة كلها من عند الملك إلى آخره تحت قدم هذا الشيخ، تحس بطعم الزهد، الدنيا كلها في قبضته، والناس تبعه، ومعهم مئات الملايين، ومع ذلك عندما تجلس معه على الأكل، تراه قليل الأكل، وله طريقة عجيبة جداً في الأكل، يسمي ويحمد الله مع كل لقمة، كل لقمة يضعها يقول: باسم الله وإذا انتهى قال: الحمد لله، باسم الله الحمد لله، باسم الله الحمد لله، إذا سمعته في المجلس تجد أنه يكثر من ذكر الله، أجمع على حبه الناس، حتى الذين يخالفونه في منهجه وفكره يحبونه ويعظمونه أيضاً، لما جعل الله تبارك وتعالى له من الحب في القلوب، وهذه منة من الرحمن عز وجل، فكان رحمه الله زاهداً، ليس له أي تعلق بالدنيا.