للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكن ما موقف الكاتب من المادة التي يجمعها من هذه المصادر؟

قلنا: إنه لا يستطيع أن يحشد كل ما جمع كما هو، وإنما هو مطالب على الدوام بأن يزن الأمور ويتحقق من صدق هذه المادة، ولكن هذا وحده لا يكفي، فترجمة الحياة كما قلنا عمل فني، وكل عمل فني يتضمن وجهة نظر خاصة بالضرورة، ومن ثم يبرز عنصر شخصي خاص بالكاتب نفسه، متجليًا في "تفسيره" الخاص لهذه المادة التي وزنها وتثبت من صحتها، ثم لا ننسى أن الكاتب كثيرًا ما يواجه تناقضًا في المادة التي يجمعها. وهنا ينبغي الالتفات إلى حقيقة مهمة، هي أن هذا التناقض قد يكون راجعًا إلى عيب في المصادر نفسها، وقد يكون راجعًا إلى نفس الشخص الذي يترجم له. ومن ثم يتعين على الكاتب أن يحدد ما إذا كانت المصادر نفسها هي المسئولة عن هذا التناقض، فعند ذاك يحق له -بل يجب عليه- أن ينفي من الروايات ما لا يرقى إلى مستوى الثقة. أما إذا لم يستطع الكاتب رد هذا التناقض إلى عيب في المصادر نفسها فلا ضير على الكاتب في أن يقرر أن التناقض في الشخصية نفسها التي يترجم لها.

وهنا يحق لنا أن نتنبه إلى أن بعض كتاب التراجم يميلون إلى إرجاع التناقض دائمًا إلى المرويات وإلى المصادر، ويتحرجون من نسبته إلى الشخصية التي يترجمون لها، وهذا خطأ؛ لأنهم يتصورون أنهم مطالبون بأن يقدموا إلينا دائمًا شخصية منطقية مع نفسها، وإن كان الواقع يشهد بعكس ذلك. ألا يحدث كثيرًا أن يتناقض الإنسان مع نفسه خلال تطوره؟ ألا يحدث كثيرًا أننا نستكشف في الحياة نفسها تناقضا؟ وكل هذا يجعل من الخطأ نفي التناقض الثابت عن الشخصية التي نترجم لها، وإنما يقتضينا الأمر إثبات هذا التناقض ومحاولة تفسيره، بل إن تفسير هذا التناقض يصبح عملا أساسيا بالنسبة لكاتب الترجمة.

ماذا يهدف كاتب ترجمة الحياة من عمله؟

إنه يريد أن يثير فينا الاهتمام بحياة إنسان له قيمته, ولكن أي مدى من الحرية في التناول يحق له لكي يثير فينا هذا الاهتمام؟ كان الكاتب -في تراجم الحياة ذات الطابع الرومانتيكي- يسمح لنفسه باختراع الأحداث والحوار، مقتربًا بذلك من الرواية التاريخية. ولكن ترجمة الحياة شيء آخر غير الرواية التاريخية، وإن غلب على طريقة بنائها الأسلوب القصصي. فمهمة كاتب الترجمة هي أن يصور لنا البطل وهو يستكشف الحياة شيئًا فشيئًا، كما يحدث في الواقع بالنسبة لكل فرد منا. لا شك أن نظرتنا إلى الأمور تتطور وتتبلور خلال مراحل حياتنا المختلفة, فنحن إذن في كشف مستمر لأنفسنا وللحياة من حولنا، وما يقربنا من الشخصية المترجم لها هو إحساسنا بهذا الكشف

<<  <   >  >>