ومن ثم يحتاج كاتب الترجمة الذاتية لكثير من الصراحة. وقبل ذلك هو في حاجة لكثير من الشجاعة؛ لكي يثبت الوقائع التي لا يرضى عنها، وأغلب ما يكون ذلك متعلقا بحياته العاطفية والجنسية. فإذا كانت لديه الشجاعة لأن يكشف كل ذلك من نفسه, فإنه ربما تحرج من ذكر الوقائع كاملة؛ لأنها عندئذ تمس شخصيات الآخرين الذين شاركوه تلك المواقف.
يضاف إلى هذا أنه مهما بلغت صراحة كاتب السيرة الذاتية وشجاعته, فإنه غالبًا ما يحرص على أن يقدم صورة متناسقة لحياته من أولها إلى آخرها، وهو لذلك قد يتجنب تلك الوقائع التي قد تبرز نوعًا من التناقض في شخصيته.
وكل هذه العوامل تجعل الترجمة الذاتية شاقة على نفس صاحبها، وقليلون هم أولئك الذين استطاعوا أن يكونوا صادقين مع أنفسهم في ترجمتهم لذواتهم.
وقد ظهر فن الترجمة لدينا حديثًا. ويعد العقاد أول كاتب يكتب لنا ترجمة فنية تمثل النوع الأول، ويتجلى فيها الذكاء والمهارة والخبرة، كالعبقريات، وترجماته للمهاتما غاندي ومحمد علي جناح وسن يات سن وغيرهم. أما النوع الثاني فقد بدأه الدكتور طه حسين بكتابه "الأيام" الذي ترجم فيه لنشأته وأطوار حياته، وهو لذلك قريب من طابع القصة. ومنذ أكثر من أربعة أعوام أصدر المرحوم الأستاذ أحمد أمين كتابه "حياتي"١ الذي ترجم فيه لنفسه. والمفروض في حالة النوع الثاني أن الكاتب يكون حريصًا على أن يلحظ الحياة الخارجية بحيث تمتد عملية التحليل والتفسير والتقويم خارج حياة الكاتب الخاصة إلى الحياة العامة. ولعل الكاتب والشاعر الإنجليزي المعاصر "إستيفن إسبندر Stephen Spender" كان صادقًا كل الصدق حين سمى ترجمته لحياته "حياة خلال حياة Life Within Life".
هذا النوع الأدبي له مكانته في الآداب الأوروبية الحديثة وله خطورته، بما يحمل إلى الناس من نماذج بشرية وقيم إنسانية لا بد أن يكون لها أثرها في تكوينهم وتوجيههم، ولكنه يحتاج دائمًا إلى الكاتب الخبير المتمكن، ونرجو أن يصرف الأدباء جزءًا من جهودهم للنهوض بهذا النوع.
وفيما يلي دراسة لنموذج من السيرة الذاتية.
كتب المفكر والأديب الكبير عباس محمود العقاد سيرة حياته في عدد من الفصول، نشر مفرقًا في مجلات "الهلال والمصور والاثنين وكل شيء والقافلة"، ثم قام
١ ينبغي أن نتذكر أن هذا التحديد الزمني صحيح بالنسبة للطبعة الأولى لكتابنا هذا.