لتوزيع درجات القوة على المواضع المناسبة من المقالة؛ وذلك لضمان الاستجابة المطلوبة عند القارئ"١.
فالمقال ليس حشدًا من المعلومات، وليس كل هدفه أن ينقل المعرفة، بل لا بد إلى جانب ذلك أن يكون مشوقًا، ولا يكون المقال كذلك حتى يعطينا من شخصية الكاتب بمقدار ما يعطينا من الموضوع ذاته. فشخصية الكاتب لا بد أن تبرز في مقاله، لا في أسلوبه فحسب، بل في طريقة تناوله للموضوع وعرضه إياه، ثم في العنصر الذاتي الذي يضيفه الكاتب من خبرته الشخصية وممارسته للحياة العامة.
والمقال نفسه يبدأ بأن يكون فكرة في رأس الكاتب، تظل في رأسه فترة من الزمن، تنمو فيها وتكبر وتأخذ الشكل السوي. وهي في تلك الفترة من النمو تتغذى من ملاحظة الكاتب، ومن قراءاته المتعددة النواحي، ومن خبراته الشخصية؛ ومن هنا اعتمد المقال على الحكاية والمثل والإشارة إلى جانب المادة التحصيلية, وكل ذلك يتشكل -حين يأخذ صورته النهائية- بحالة الكاتب النفسية. ومعنى هذا أن الكاتب يحدد مشروع مقاله قبل أن يكتبه بحيث تتوجه كل مادته على اختلاف أنواعها إلى جلاء فكرة واحدة في جميع جوانبها. وفي الوقت الذي يحرص فيه الكاتب على تماسك مقاله وقوته نجده حريصًا على إمتاع قارئه.
ولما لم يكن للمقال ميدان محدد فقد رأيناه يتنوع أنواعًا عدة، فمقال أدبي، وآخر سياسي، وثالث اجتماعي، ورابع نقدي ... إلى غير ذلك من الأنواع. وقد كانت صحافتنا -قبل الحرب العالمية الأخيرة- صحافة مقال، أي: إنها تعتمد اعتمادًا كبيرًا في تحريرها على المقالات المختلفة، ثم تحولت فترة إلى صحافة خبر، وأصبح دور المقالات ثانويًّا. أما في الوقت الحاضر فقد عادت المقالة تحتل مكانها في الصحف والمجلات على السواء، ولا ننسى أن المجلات الأدبية تهتمّ بالمقالة اهتمامًا خاصًّا.
وفيما يلي دراسة لإحدى المقالات:
شهر الدكتور زكي نجيب محمود -من بين المشتغلين بالفلسفة، ومنذ وقت مبكر- بكتابة المقال، فقد شغل -إلى جانب الفلسفة والتفلسف- بالظاهرة الأدبية، وتكون لديه تصور عملي لفن المقال، الذي يمتزج فيه الفكر بالحس، والتصور النظري بالتجربة العملية، والتاريخ بالواقع. والمقصود بالتصور العملي هنا هو طريقة إنشاء المقال وتركيب عناصره على نحو يحقق له الوحدة الموضوعية من جهة، ويجعله مثيرًا ومشوقًا للقارئ العام من جهة أخرى.