وهذا مقال نشره بعنوان "مدينة الفكر كثيرة الأبواب"١.
ونلاحظ منذ البداية أن هذا العنوان قد صِيغ في جملة تامة مفيدة، وهي عبارة تبدو بسيطة للغاية، ومع ذلك فمن الواضح أنها لا ترد على الذهن ابتداء، أعني أنها لا تعبر عن مشكلة تطرح للوهلة الأولى على بساط التفكير، بل تبدو كما لو كانت تلخص النتيجة الأخيرة لسلسلة من الأفكار. ومن ثم تنشأ لدى القارئ -إثر قراءته لهذا العنوان- الرغبة في أن يعرف تلك الأفكار التي قادت إلى هذه النتيجة.
وهذه هي الإثارة الأولى التي يمكن أن يحققها عنوان المقال لدى القارئ, وذلك عندما ينجح في حفزه على قراءة المقال. وربما كان يغلب على الاعتقاد أن العنوان الذي تتصف صيغته بالغموض هو العنوان المحقق للإثارة، ولكننا رأينا هنا كيف أن العنوان الذي صيغ في جملة "مفيدة" كان أيضًا مثيرًا.
والمعول في كل الأحوال على مدى قدرة العنوان على أن يثير في ذهن القارئ هذا السؤال:
كيف كان ذلك؟ فعند ذاك تتولد لدى القارئ الرغبة في قراءة المقال. فإذا قال الدكتور زكي نجيب محمود في عنوان مقاله: إن "مدينة الفكر كثيرة الأبواب" قلنا: وكيف كان ذلك؟ وهنالك نشرع في قراءة المقال.
وكما أن عنوان المقال يؤدي دورًا مهمًّا في إثارة ذهن القارئ ودفعه إلى قراءة المقال، فكذلك الشأن بالنسبة إلى مدخل المقال نفسه، فكاتب المقال يختار المدخل الذي يظل يترجح في علاقته بالموضوع بين الوضوح والغموض، والذي قد يبدو للوهلة الأولى بعيدًا عن صلب الموضوع، وإن اتضحت علاقته الماسة به فيما بعد.
وقد دخل الكاتب إلى المقال الذي بين أيدينا من مدخل غريب، فحدثنا عن كتاب عربي صدر في مستهل الخمسينيات بعنوان "علمتني الحياة" يضم مجموعة من المقالات لكتاب غربيين وعرب، يتحدثون فيها من خلال تجاربهم عما علمتهم إياه الحياة. وكان كاتبنا واحدًا ممن اختيروا من الكتاب العرب للكتابة في هذا الموضوع. ويستعيد كاتبنا خلاصة ما قاله حينذاك، وهو أنه "كلما امتدت الأعوام بالإنسان قلت حدة انفعاله، وزادت رجاحة عقله"، فإذا بسلوكه يختلف أمام الموقف الواحد، فيكون انفعاليا في سن الشباب، رزينا ومتعقلا في سن الكهولة فضلا عن الشيخوخة. ثم يذكر الكاتب أنه