ضرب لذلك مثلًا واقعيًّا شهده في جدته لأبيه، كيف بلغ بها الحزن والهلع حد الجنون عندما غرق أحد أبنائها في النيل، وكيف كظمت حزنها على وفاة ابن آخر لها بعد عشرين عامًا من الواقعة الأولى.
وإلى هذا يبدو الحديث غريبًا عن الموضوع، إذن ما العلاقة بين تطور الإنسان في حياته من الانفعالية الثائرة إلى العقلانية الهادئة، ومدينة الفكر الكثيرة الأبواب؟ لكن المؤكد أن الكاتب لن يكتب كلامًا لا علاقة له بما هو فيه، إلا أن يكون فاسد التفكير. وإذن فلا بد من المضي في القراءة لاستجلاء المقصود من هذا المدخل, وعندئذ يكون الكاتب قد ولد لدى القارئ الرغبة في متابعة القراءة، حتى يدرك لم اختار الكاتب هذا المدخل لموضوعه.
ويمضي الكاتب بعد ذلك فيسأل نفسه عما إذا كان ما يزال عند رأيه القديم ذاك، فيقرر أن رأيه لم يتغير، ولكنه يضيف إليه إضافة جديدة ومهمة، مؤداها أنه يجب على الإنسان ألا يضيق على نفسه الأفق، بأن يقف من أي موضوع معروض للنظر موقفًا يقول فيه:"إما.. وإما.. ولا ثالث لها". ذلك أن معظم الأمور تحتمل الجمع فيها بين جانب وجانب، بل بين عدة جوانب كان المظنون في أول الأمر أنها لا تجتمع.
وواضح أن هذه الإضافة الجديدة تترتب على الفكرة الأولى، التي توضح كيف أن الفرد نفسه يتعامل مع الموقف الواحد في زمنين مختلفين بأسلوبين مختلفين.
وهنا يشرع الكاتب في ضرب مثال واقعي يؤكد به الفكرة الجديدة، فيذكر كيف مرت أعوام كان فيها هو وزملاؤه من أساتذة الفلسفة يعتركون حول النظرة الفلسفية الصحيحة وما تكون، فكان منهم من يرى أنها النظرة المثالية، ومنهم من يرى أنها النظرة الوجودية، وكان هو نفسه يرى "أن النظرة الفلسفية الصحيحة هي ما يجعل المعرفة العلمية موضوعه الرئيسي، وما يجعل لشهادة الحواس المنزلة الأولى في الحكم على تلك المعرفة بالصواب أو بالخطأ". ولكنه أدرك -فيما بعد- أن النظرة الصائبة صوابًا كاملًا "هي تلك التي تجمع تلك الاتجاهات كلها في رقعة واحدة"، على أساس أن الكيان الإنساني نفسه إنما يقوم على عدد من العناصر، وأن الحياة الإنسانية متعددة الجوانب. فإذا اهتم الكاتب بجانب الحياة العلمية فليس يمنع هذا أن يهتم غيره بجانب آخر.
ومرة أخرى يعود الكاتب فيضرب مثالا ولكنه في هذه المرة مثال افتراضي، فيشبه الأمر بجماعة من الناس "وقفوا جميعًا ينظرون معًا إلى منظر واحد، لكنّ كلا منهم أخذ ينظر إليه من زاويته الخاصة، فأحدهم يفكر لنفسه: هل يصلح هذا المكان لإقامة ملعب للكرة؟ وآخر يفكر لنفسه: ماذا لو أحضرت أدواتي غدا, وجلست أرسم هذا المنظر؟