صعوبات في محاولة فهمه وتذوقه فضلا عن الحكم عليه، ولكن يجب ألا تصدنا هذه الصعوبات عن تلك المحاولة. وقد نضطر إلى أن نعدل من موقفنا حتى نستطيع التجاوب مع هذا الأدب, ولا بأس بذلك، فعندئذ ستتفتح أمامنا الآفاق، وما كان صعبًا سيغدو -مع حسن النية وجدية المحاولة- سهلًا ميسورًا. وعلى الجملة ينبغي أن نكون معتدلين في محافظتنا وفي نزعتنا إلى التجديد، وأن نكون -تبعًا لذلك- معتدلين في حكمنا على قيمة الأدب القديم, والأدب الحديث.
فحين نربط بين قيمة العمل الأدبي والابتكار يجب ألا يغيب عن بالنا أن كل جديد لا يعني أنه مبتكر, وأنا أستخدم كلمة الجديد هنا بمعنى أنه أنتج حديثًا أو أنه إنتاج معاصر.
وكثيرًا ما يصطنع النقد مقياسًا آخر غير الابتكار يقيس به قيمة العمل الأدبي, هو مقياس العمل الخالد. فالأدب الذي يحتفظ بكيانه، ويثبت وجوده في كل الظروف، هو الأدب القيم، أما الأعمال الفنية الموقوتة بزمن معين فإن قيمتها تزول بزوال زمنها، وتموت بموت مقتضياتها؛ ومن ثم تكون الأسباب التي أكسبتها شعبية وقتية هي نفسها التي تعمل ضد استمرار حياتها. وهكذا كان تاريخ كثير من الكتب التي ازدهرت في موسم من المواسم، فالجيل الجديد لم يعرف عنها شيئًا، ولكنَّ هناك كتبًا لها قوة التغلب على كل تغير في المقتضيات والأذواق وحتى الحضارة ذاتها, لماذا؟ لأنها تستطيع أن تتكيف مرة بعد مرة مع ظروف حياتنا العقلية والأخلاقية الدائمة التطور, إن لها رسالة ومعنى يخصنا. وربما كانت هذه الكتب -وفي أحوال كثيرة كانت بلا شك- وقتية بأضيق معاني الكلمة، لكنها لم تعش بسبب وقتيتها بل برغم وقتيتها؛ لأن ما تحمل معها مما لا يتصل ببيئتها وعصرها اللذين ظهرت فيهما هو عقبة في سبيل بقائها وليس مساعدًا على ذلك، ولو أنه كان معينًا على نجاحها الأول. إنها تبقى لأنها -مهما يكن مقدار قربها من المسائل التي لا يمكن أن تكون في طبيعة الأشياء إلا محلية ووقتية- تحتوي على عناصر يظل لها -وقد انقضى أجل تلك الأمور منذ زمن بعيد- القدرة على الإمتاع والتأثير والإلهام١.
ولكن هذا المقياس الذي يصطنعه أحيانًا مقياس غير دقيق، سواء حين ينصب على الأعمال الأدبية القديمة أو الحديثة، فلسنا نستطيع -من جهة- أن نقول: إن الأعمال الأدبية التي عاشت منذ وقت مبكر حتى عصرنا هي أكثر ما أنشئ عبر التاريخ