منظر غير جميل لا تهفو النفوس إليه أو تتهافت لرؤيته، وحق أن الخلق يأبى على شاعر أن يواجه خليفة المسلمين بهذه الصورة التي تنال من نفسه، ولكن الحكم على فن ذي الرمة من هذين الوجهين، والانتهاء إلى ما قيل من فساد ذوقه وقبح صوره، ظلم كبير للشاعر. وأحسن من كل هذا أن ننسى أن هناك خليفة يمدح، ولنتحامل على أنفسنا فلا ننفر من صور الكلى المفرية، ولنبحث في ذلك القرار البعيد من نفسية ذي الرمة عن دلالة ذلك الرمز، أعني الكلى المفرية التي ينسكب منها الماء.
وذو الرمة هو الشاعر الذي عاش في الصحراء وعاش للصحراء، وقد جاب فلواتها ليلًا ونهارًا بمفرده، وسمع فيها عزيف الجن، وعانى فيها ما يعانيه الوحيد في جوف الصحراء. ولعل مما حدث له ذات مرة أن كان في جوف الصحراء وقد اشتدّ به العطش، وعندما هرع إلى قرابه يستسقيه وجد أن خوارزه قد فسدت، وأن الماء قد تسرب منها فلم يبق له ما يسد به رمقه. وقد وصف ذو الرمة نفسه فساد القراب في البيت التالي حيث قال:
وفراء غرفية أثأى خوارزها ... مشلشل ضيعته بينها الكتَبُ
وفي تلك الحال من العطش، واللهفة إلى من يزيل عنه هذا العطش، يتذكر ذو الرمة ركبًا قافلا في الصحراء يمده بالماء, فيقول في البيت التالي:
استحدث الركب عن أشياعهم خبرًا ... أم راجع القلب من أطرابه طرب؟
وهنا يمكن أن يسأل سائل متسرع: أليست هناك نقلة أو قفزة سريعة بين كلامه عن القراب الذي تلف وبين الركب الذي ينقل إليه الأخبار؟ والواقع أننا نستطيع أن نقفز مع الشاعر نفس القفزة إذا نحن فهمنا السبب الذي جعل الشاعر يلجأ إلى تلك الصورة، صورة القراب الذي سال منه الماء، على أساس ما بينّا.
فإذا كان ذو الرمة يستفتح الخليفة بهذه الصورة, فليس ذلك إلا لأن ذا الرمة قد أتى الخليفة وفي نفسه أنه سيقضي له حاجته، وسيغدق عليه من عطاياه. إنه يشكو إليه ضياع زاده في صحراء تلك الحياة وتسربه منه, وهو في وحدته لا يكاد يتماسك أو يجد سندًا له معينًا. فهي إذن شكوى مرة تلك التي أراد إليها الشاعر، وليست -كما زعموا- تهجمًا على الخليفة، وليست فساد ذوق كذلك.
وهناك محاولات أخرى نكتفي هنا بأن نشير إليها، هي محاولة الأستاذ عباس محمود العقاد لدراسة شخصية "أبي نواس" وفهم شعره على أساس من التحليل