للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

موضوعات الشعر فلا بد أن يكون تناوله تناولًا شعريًّا، وإذا حاول الكاتب -تبعًا لذلك- أن يتناوله تناولًا نثريًّا فإنه يكون عرضة للإخفاق. وكذلك يقال: إن هذا الموضوع هو من موضوعات النثر، فلا بد أن يكون تناوله تناولا نثريا، وإذا حاول الشاعر -تبعًا لذلك- أن يتناوله تناولا شعريا فإنه يكون عرضة للإخفاق، وهذه الفكرة -كما قلت- خاطئة، فليس هناك موضوع مخصص للشعر لا يصلح الشعر إلا فيه، فإن كل موضوع صالح لأن يكون موضوعًا شعريًّا. وقد كانت هذه الفكرة الخاطئة أساسًا للتفريق بين الشعر والنثر على أساس من الموضوع، فيقال: إن الشعر يختلف عن النثر من حيث الموضوعات, وليت هذا كان صحيحًا، فهو يبدو مريحًا من عناء البحث، ولكنه -مع الأسف- لا يمكن أن يكون كذلك؛ لأنه قائم على أساس فكرة خاطئة.

فإذا قلنا: إن كل موضوع صالح للتناول الشعري, كان علينا أن نعيد النظر في الفرق الذي يمكن أن نميز به الشعر عن النثر. وهو حتى الآن لا يمكن أن يكون فرقا في استخدام الإمكانات الفنية للغة أو عدم استخدامها، وكذلك ليس فرقًا في الموضوعات؛ لأننا لا نأخذ بأن هناك موضوعات خاصة بالشعر. فإذا لم يكن الفرق في اللغة المستعملة، ولا في الموضوعات التي يكتب فيها الشعر والنثر، فهل يتوقع بعد ذلك أن يكون هناك فرق بينهما؟

ليس هناك ما يدعو لليأس، ونستطيع أن نبدأ الآن فنسأل أنفسنا: لماذا يكتب الشاعر، حين يكتب، شعرًا ولا يكتب نثرًا؟ بعبارة أخرى أكان يستطيع أن يكتب نثرًا ولكنه عدل عن ذلك واصطنع هذا النوع من التعبير الشعري؟ الواقع أن الشاعر لا يختار بين الشعر والنثر حين يبدأ عمله الفني، ولكنه يجد نفسه مدفوعًا إلى هذا النوع من التعبير. وما الذي يدفعه؟ ونجيب عن ذلك فنقول: إن حالته الوجدانية هي التي تجعله في وضع يكون فيه التعبير الشعري -فضلا عن أنه أفضل أنواع التعبير عن هذه الحالة- هو التعبير الوحيد الكافي، فالشعر، قبل كل شيء، يعتمد على ما عند الشاعر من "بصيرة" شعرية، وعندئذ لا تكون مادة شعرية في ذاتها، مستقلة عن هذه البصيرة، ولكنها تكون كذلك لأنها دخلت في مجال الحالة الشعرية. والعمل الشعري -تبعًا لنظرية عدم الفصل بين الصورة والمحتوى- لا يتحقق فيه الموضوع مستقلًّا عن الصورة، فموضوع القصيدة، أي قصيدة، هو القصيدة ذاتها. ومعنى هذا أن الموضوع المجرد لا يمكن وصفه بشيء، ولكنه يمكن أن يوصف بأنه شعري حين يتحقق في عمل شعري, فمن خلال بصيرة الشاعر تتمثل المعاني الشعرية. وهذه المعاني لا يمكن أن تظهر إلا في صور والصورة دائمًا مظهر للمعنى. ومن هنا تأتي الصورة الشعرية، أو التعبير الأدبي الشعري، مختلفًا في طريقة استخدامه للغة وإمكاناتها نوعًا من الاختلاف عن التعبير

<<  <   >  >>