أننا لا نتحدث عن التعقيد بما هو ظاهرة بنائية نفسية في القصائد أو الأعمال الشعرية الطويلة". وليس الطول في ذاته هو الذي يشعر بالتعقيد أو يبعث عليه، ولكن كل قسم بمفرده يستمتع بمزيد من الإيحاء والمعنى بسبب علاقته بالكل. فمثلا آخر كلمة نطق بها "هاملت" إزاء مشكلة الحياة والموت هي: "إن البقية صمت! ", وهي عبارة لا تعطي حلًّا واحدًا للمسألة، وإنما هي توحي بأن البقية راحة, ولكنها من الممكن أن تعني أن "هاملت" لن يستطيع الكلام بعد، ويمكن أن تعني كذلك أنه مهما طال اهتمام الكائنات الفانية, فإن الصمت يتلو جميع أسئلتها عن الحياة المستقبلة.
ومن كل هذا يتضح لنا ما قررناه من أن "القصيدة الطويلة" نوع أدبي يعد من جهة تطورًا للقصيدة الملحمية الأدبية، كما أنه في الوقت نفسه يمكن أن يعد تطورًا للقصيدة الغنائية بعد أن تركت بدايتها الغنائية العاطفية الصرف، وتطورت بتطور الحضارة، ودخل فيها العنصر الفكري. ففي "القصيدة الطويلة" تتجمع صفات "الملحمة الأدبية" مع فرق ملحوظ في الطول؛ لأن الملحمة أطول في العادة بكثير. وفيها كذلك تتجمع صفات القصيدة الغنائية الفكرية "الأنشودة ode" بصفة خاصة.
ويحدثنا "جايتان بيكو Gaetan Picon" وهو من أبرز النقاد الفرنسيين في العصر الحديث، عن أن الشعر المعاصر قد أصبح نشاطًا روحيًّا مصاحبًا للواقع، فهو ليس سوى إبداع فني للواقع. ويستوي أن يكون الواقع هنا خبرة نفسية، أو موضوعًا وصفيًّا، أو قصة تاريخية، أو سوى ذلك.
والقصيدة الطويلة حشد كبير من هذه الأشياء "الجاهزة" التي تعيش في واقع الشاعر النفسي، والتي تتجمع وتتضام، ويؤلف بينها ذلك الخلق الفني الجديد ليخرج منها عملا شعريا ضخما. فأنت تجد فيها الخرافة والحقيقة والقصة والواقعة والزمن والخبرة الإنسانية والمعرفة، أو لنقل: تجد فيها آفاقًا فسيحة متعددة من الحياة. وهذا كله ينتقل من صورته الأصلية أو من ماضيه، ليحتل صورة جديدة، وليستقر في حاضر جديد، وكأنه قد خلق خلقًا آخر. و"الشعر" في القصيدة الطويلة هو ذلك الخلق الآخر، ولا تتجمع هذه الآفاق المتعددة بصورة اعتباطية، وإلا أصبحت أمشاجًا لا لون لها ولا طعم، ولأصبحت القصيدة شيئًا آخر، لا هي بالطويلة ولا بالغنائية، ولكنها تتجمع في خلقها الجديد ليربط بين أجزائها رباط حيوي هو ما سماه "ريد" من قبل "الفكرة".
وإذا كنا قد أطلنا الكلام عن "القصيدة الطويلة" فلأنها أهم نوع شعري في الأدب المعاصر. وقد بدأ شعراؤنا -كما قلت- ينصرفون إليها, وكان انصرافهم إليها أمرًا من