وكان لا بد -مع تطور الوعي الفني- أن يحاول الشعراء فيما بعد أن يتخلصوا من رواسب القصيدة الغنائية القديمة بألفاظها وصورها وشكلها وكل مبادئها الفنية، وأن يؤصلوا مبادئ جديدة يحققونها في أشعارهم. وقد مر بنا نموذجان لهذا الشعر الجديد، أحدهما للشاعرة العراقية "نازك الملائكة" والثاني للشاعر السوداني "جيلي عبد الرحمن". ويعرف العالم العربي الآن عددًا لا يحصى من الشعراء الجدد الذين يمثلون الاتجاه الجديد في الشعر العربي، وقد تكاثر إنتاج هؤلاء في الأعوام الماضية، ولست في مجال إحصاء للشعراء الذين يتأثرون بالمنهج الجديد في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت وغيرها، فإن عددهم الآن يفوق الحصر، ولكننا لو وقفنا أمام قصيدة كقصيدة "الملك لك"١ لتبينت لنا خصائص القصيدة الجديدة. والحق أنها الخصائص التي تتجمع فيما سبق أن سميناه "القصيدة الطويلة"، وهي خصائص فكرية وفنية. فهناك الفكرة أو الشعور العام الذي يسير على كل وحدات القصيدة ليجعل منها جميعًا كلا متماسكًا، وبناء فكريًّا متكاملًا، ثم هناك الشكل الشعري الذي جاء نتيجة حتمية لذلك البناء النفسي. وظهرت فلسفة جديدة لاستخدام الكلمة وتكوين الصورة، كما ظهر في القصيدة الطابع القصصي السردي:
أواحدتي ربما تعجبين، وقد تسألين:
لماذا إذن يا صديقي ينور عينيك فيض سرور وحب؟
حكاية هذا -على طولها- لا تثير السآم.
سأحكي الحكاية من بدئها ...
لحد الختام.
صباي البعيد
أحن إليه..
ويمضي الشاعر يرسم صور الطفولة وأحلامها وأوهامها, والطفولة مرحلة في حياة الإنسان لا تنفصل عن الأم. وهنا يرسم الشاعر صورة حية للأم المصرية بأوهامها ومعتقداتها، وللطفولة، من خلال مشاهد متنوعة:
١ للشاعر صلاح الدين عبد الصبور، نشرت بمجلة "العالم العربي" التي تصدر في القاهرة، عدد أكتوبر سنة ١٩٥٣، نشرت بعد ذلك في ديوانه "الناس في بلادي".