وأعلم أن الأصوليين لم يعتنوا بتحقيق الفرق بين العلة والسبب، وربما وقع في كلامهم أنهما سواء، لأن مقصدهم الوصف الذي ترتب بعده الحكم وله مدخل فيه، وليس ذلك إنكارًا منهم للفرق، بل لما لم يحتاجوا إليه لم يذكروه، وهو واقع لا محالة.
واستعمله الغزالي رحمه الله في الفقيات على نحو ما أيدناها، فقال في الجراح.
الفعل الذي له مدخل في الزهوق إن لم يؤثر في الزهوق ولا فيما يؤثر فيه فهو الشرط وإن أثر فيه وحصله فهو العلة كالقد والجزء وإن لم يؤثر في الزهوق ولكن أثر في حصوله فهو السبب كالإكراه، ولا يتعلق القصاص بالشرط، ويتعلق بالعلة وكذا بالسبب على تفصيل فيه.
واعترضه الرافعي بأنه لم يف بهذا الاصطلاح في الشرط والسبب لكونه سمى الحفر سببًا في الغصب وشرطًا في الجراح.
وأجاب عنه ابن الرفعة بأنه إنما جعل الحفر شرطًا في الجراح وسببًا في الغصب؛ لأن الضمان ترتب على الحفر إذا انعدمت التردية، وفي الجراح لا يجب القصاص به إذا انعدمت، ويؤيده أنه في باب الديات جعل الحفر سببًا لتعلق الدية به. وهو جواب صحيح، حاصله أن الحفر صالح للسببية وللشرطية، فإذا ترتب عليه المسبب كان سببًا وإلا كان شرطًا، والقصاص لا يترتب فلا يكون بالنسبة إليه. سببًا بل شرطًا، والضمان ترتب فيكون بالنسبة إليه سببًا وهذا حسن، وعند هذا نقول: أعلم أن الوسائط بين الأسباب والأحكام تنقسم إلى مستقلة وغير مستقلة.
فالمستقلة بضاف الحكم إليها ولا يتخلف عنها وهي العلل.
وغير المستقلة: منها ما له مدخل في التأثير ومناسبة إن كان في قياس المناسبات وهو السبب، ومنها ما لا مدخل له، ولكن إذا انعدم ينعدم الحكم وهو الشرط بهذا يتبين لك ترقي رتبة العلة عن رتبة السبب، ومن ثم يقولون: إن المباشرة تقدم على السبب، ووجهه أن المباشرة علة، والعلة أقوى من السبب، ومن ثم لو فتح زقًا بمحضر من مالكه فخرج ما فيه والمالك يمكنه التدارك فلم يفعل فوجهان.
أحدهما: يضمن كما لو رآه يقتل عبده أو يحرق ثوبه فلم يمنعه.
والثاني: لا، والفرق أن القتل والتحريق مباشرة، وفتح الزق سبب. والسبب يسقط حكمه مع القدرة على منعه.