فعلم أنه أشار إلى هذا البيت بتلميحه الغريب، فتذكر ما وعده به وأنجزه له واعتذر إليه من النسيان.
ومثله ما حكي أن أبا العلاء المعري كان يتعصب للمتنبي، فحضر يومًا مجلس الشريف المرتضى، فجرى ذكر أبي الطيب فهضم المرتضى من جانبه، فقال أبو العلاء: لو لم يكن له من الشعر إلا قوله: لك يا منازل في القلوب منازل. لكفاه. فغضب المرتضى، وأمر به فسحب وأخرج، وبعد إخراجه قال المرتضى: هل تدرون ما عني بذكر البيت، فقالوا: لا والله! فقال: عنى به قول أبي الطيب في قصيدته:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ومن هذا القبيل قصة السري الرفاء مع سيف الدولة، بسبب المتنبي أيضًا، فإن السري الرفاء كان من مدَّاح سيف الدولة، وجرى يومًا في مجلسه ذكر أبي الطيب، فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه، فقال له السري: أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده، لأعارضها له، ويتحقق بذلك أنه أركب المتنبي في غير سرجه. فقال له سيف الدولة على الفور: عارض لنا قصيدته القافية التي مطلعها:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق منه وما بقي
قال السري: فكتبت القصيدة واعتبرتها في تلك الليلة، فلم أجدها من مختارات أبي الطيب، لكن رأيته يقول في آخرها عن ممدوحه:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحقِ
فقلت: والله ما أشار سيف الدولة إلا إلى هذا البيت، وأحجمت عن معارضة القصيدة.
وألفط من هذا ما حكاه ابن الجوزي، في كتاب الأذكياء، فإنه من غرائب التلميح. قال: قعد رجل على جسر بغداد، فأقبلت امرأة بارعة في الجمال، من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي، فاستقبلها شاب، فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت له: رحم الله أبا العلاء المعري. وما وقفا بل سارا مغربًا ومشرقًا. قال الرجل: فتبعت المرأة، فقلت لها: والله إن لم تقولي لي ما أراد بابن الجهم فضحتك، قالت: أراد به:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري