وكان ابن زيدون كثير الشغف بها والميل إليها وأكثر غزل شعره فيها، وقد تقدم ذكر ميلها إليه، بخلاف أهل عصره من أهل الأدب، لحسن أدبه ولطائف شمائله وتقدمه على أهل زمانه.
وكان الوزير أبو عامر بن عبدوس كثير الهيمان بها، واجتهد في التوصل إليها، والاجتماع بها، والاقتطاف من ثمار آدابها الغضة، والتمتع بجمالها البارع، فعجز عن ذلك لكثرة ميلها إلى ابن زيدون وتوصل إلى أن أرسل إليها امرأة من خواصه لتستميلها إليه، وتعرفها عظم مقامه وسمو رتبته على غيره، وتبالغ في التوصل إلى رغبتها فيه، فبلغ ذلك ابن زيدون فأنشأ هذه الرسالة على لسان ولّادة، تتضمن سب الوزير أبي عامر والتهكم به، وبنى غالبها على نوع التلميح، وجعلها جوابًا عنها، فاشتهر ذكر الرسالة في الآفاق، وأمسك الوزير ابن عبدوس عن التعرض إلى ولادة.
فمن سجعات الرسالة المبنية على التلميح قوله منها، على لسان ولادة، يخطاب الوزير ابن عبدوس: حتى قالت إن باقلًا موصوف بالبلاغة إذا قرن بك. هذا التلميح فيه إشارة إلى عمرو بن ثعلبة الإيادي الذي يضرب به المثل في العيّ فيقال: فلان أعيى من باقل. قال أبو عبيدة: بلغ من عيه أنه اشترى ظبيًا بأحد عشر درهمًا، فلقيه شخص والظبي معه فقال له: بكم اشتريته؟ ففتح كفيه، وفرق أصابعه، وأخرج لسانه يشير إلى أحد عشر فهرب الظبي.
ومنها: وهبنقة مستوجب لاسم العقل إذا أضيف إليك. هذا التلميح يشير فيه ابن زيدون إلى يزيد بن ثروان، أحد بني قيس بن ثعلبة الملقب بهبنقة المكنى بأبي الودعات، لأنه نظم ودعا١ في سلك وجعله في عنقه علامة لنفسه لئلا يضيع، وهو جاهلي يضرب به المثل في الحمق. قيل إنه كان إذا رعى غنمًا أو إبلًا جعل مختار المراعي للسمان، ونحى المهازيل عنها، وقال: لا أصلح ما أفسد الله. واختصم بنو راسم وبنو طفاوة في شخص يدَّعونه، وأطلعوا هبنقة على أمرهم، فقال: ألقوه في البحر فإن رسب فهو من بني راسب وإن طفا فهو من بني طفاوة. واشترى أخوه بقرة بأربعة أعنز فركبها، فأعجبه عدوها، فالتفت إلى أخيه وقال: زدهم عنزًا، فضرب بها المثل للمعطي بعد إمضاء البيع، ثم سار فرأى أرنبًا تحت شجرة، ففزع منها، وهمز البقرة، وقال:
الله نجاني ونجا البقرة ... من جاحظ العيني تحت الشجره
١ الودع: جمع ودعة وهي صدفة صغيرة تخرج من البحر في جوفها دويبة صغيرة.