للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذهنه كليلًا١ فيقول إنه من هذا الفن متنصل٢، فإن هذه العرائس لم تبرز لمتأمل إلا من خدور هذا الكتاب، وإذا طلبها من غيره توارت عنه بالحجاب، فإذا سرح المتأمل طرفه وأمسى في كل واد من محاسنها يهيم، وتنوعت حلاوات أنواعها لذوقه السليم، جردت سيف العزم وأقمت لكل نوع حدًّا، ونظمت له من أنواع التورية وأقسامها في سلك هذا النوع عقدًا، فإن الشيخ صفي الدين الحلي لم يذكر في شرح بديعيته نوعًا من أنواع التورية، ولا قسمًا من أقسامها، بل ذكر حد التورية الذي أجمع الناس عليه وقال: هي أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين قريب وبعيد، فيذكر لفظًا يوهم القريب إلى أن يجيء بقرينة يظهر منها أن مراده البعيد.

قلت: ومن أين يعرف الطالب من هذا الحد التورية المجردة، والتورية المرشحة وقسميها، والمبنية وقسميها، والمهيأة وأقسامها.

وكذلك العلامة زكي الدين بن أبي الأصبح، لم يذكر في كتابه المسمى "بتحرير التحبير" نوعًا من أنواعها ولا قسمًا من أقسامها، مع أن كتابه ما وضع في هذا الفن له نظير، بل قال: التورية، وتسمى التوجيه، وهي أن يكون الكلام يحتمل معنيين، فيستعمل المتكلم أحد احتماليه ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله.

وأما صاحب التلخيص فإنه قال، مشيرًا إلى البديع: ومنه التورية، وتسمى الإيهام أيضًا، وهي أن يطلق لفظ له معنيان، قريب وبعيد، وهي ضربان: مجردة ومرشحة. ولم يزد على هذا القدر شيئًا.

وإذا أردت ما وعدت بإيراده من طلاوة المتأخرين في التورية، شرعت في الكلام على أنواعها وأقسامها، ليسير ركب الأدب في طرقها المتشعبة بدليل، ويصير لديباجة هذا النوع تفصيل، وقد قدمت ذكر الفاضل ومن فضل بعده، في باب الاستخدام، ولكن لم يمكن اختصارهم في باب التورية، فإنهم فرسان حلباتها، وأجل من سكن غريب نظمه بأبياتها، وكل ما أوردته لهم ولغيرهم من التورية في غير بابه، تعين نظم شمله هنا، ليجتمع كل غريب بأقاربه وأنسابه. فمن مخترعات القاضي الفاضل في التورية قوله من مديح قصيدة طائية، وهي نكتة لم تختل في صدر غيره، وهو:

أما الثريا فنعل تحت أخمصه ... وكل قافية قالت لذلك طا٣


١ كليلًا: غير قاطع.
٢ تنصل: تخلص، نفى إسهامه.
٣ طا: أي طأ. أمر من وطأ.

<<  <  ج: ص:  >  >>