للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن هذا الباب حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْنُونَ (١) عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ، وَإِنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نُسْنِي، عَلَيْهِ وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا» . فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَةٍ، فَمَشَى النَّبِيُّ (نَحْوَهُ، فَقَالَتَ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ (٢) وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ. فَقَالَ: «لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ (٣) » . فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ! وَنَحْنُ نَعْقِلُ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ. فَقَالَ: «لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» (٤) .

فلم يستغل النبي (صلى الله عليه وسلم) سجود الجمل له ليعظم نفسه أو يرفعها، بل قال: لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر.

المطلب الثامن: استعداده للملاعنة والمباهلة على من خالفه، غير وجل ولا خائف أن يحيق به شيء (٥) :

المباهلة هي الملاعنة (٦) ،

قال في لسان العرب (٧) : (وباهَلَ القومُ بعضُهم بعضاً وتَبَاهلوا وابتهلوا: تَلاَعنوا، والمُباهلة: المُلاَعَنَة؛ ويقال: باهَلْت فلاناً أَي لاعنته، ومعنى المباهلة: أَن يجتمع القوم إِذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لَعْنَةُ الله على الظالم منا، وفي حديث ابن عباس: من شاء باهَلْته أَن الحَقَّ معي) .

قال ابن حجر -رحمه الله- في سرده لفوائد حديث حذيفة القادم: (وَفِيهَا مَشْرُوعِيَّة مُبَاهَلَة الْمُخَالِف إِذَا أَصَرَّ بَعْد ظُهُور الْحُجَّة، وَقَدْ دَعَا اِبْن عَبَّاس إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ الْأَوْزَاعِيُّ، وَوَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاء، وَمِمَّا عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ مَنْ بَاهَلَ وَكَانَ مُبْطِلًا لَا تَمْضِي عَلَيْهِ سَنَة مِنْ يَوْم الْمُبَاهَلَة، وَوَقَعَ لِي ذَلِكَ مَعَ شَخْص كَانَ يَتَعَصَّب لِبَعْضِ الْمَلَاحِدَة فَلَمْ يَقُمْ بَعْدهَا غَيْر شَهْرَيْنِ) (٨) .

ودلالة هذا المطلب على النبوة من وجهين:

١- ثقة النبي (صلى الله عليه وسلم) الكاملة في دينه ومن أرسله جل وعلا، إذ من كان في قلبه أدنى شك في معتقده لا يمكن أن يقدم على مثل هذا المهلكة إلا أن يعتقد اتقادا جازما في صدق ما يقول.

٢- نكوص النصارى عن المباهلة، مما يدل على تصديقه في قلوبهم ولكنهم يعاندون.

قال تعالى له: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ

أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى

الْكَاذِبِينَ ( [آل عمران:٦١] .


(١) يسنون عليه: أي يستقون عليه لسان العرب (س ن ي) ، وسني الدابة: استقي عليها الماء. المعجم الوسيط
(س ن ي)
(٢) أي المسعور. يقال كَلِبَ الكَلِبَ يَكْلَبُ كَلَباً: أصابة داءُ الكَلِبَ. انظر: الوسيط (ك ل ب) ،ولسان العرب (١/٧٢٢) .
(٣) فالذي عصمه من كل أذى الناس ألا يقدر أن يعصمه من الحيوان؟ .
(٤) أخرجه الإمام أحمد (١٢٢٠٣) وإسناده حسن. (صححه الألباني في صحيح الترغيب، رقم: ١٩٣٦) وقد تقدم في ذكر آيات النبي (صلى الله عليه وسلم)
(٥) كتاب الداعي إلى الإسلام لكمال الدين الأنباري (ص:٤٣٧) ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولي،١٩٨٨، وتثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار (٢/٤٢٦) .
(٦) انظر: مختار الصحاح (١/٢٧) .
(٧) (١١/٧٢) .
(٨) فتح الباري (٧/٦٩٧) .

<<  <   >  >>