للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فـ (الدعوة المحمدية في مكة عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآنه، وصد لغيرهم عن الإصغاء له، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شِعب من شِعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه، فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك الذي طوله عشرة أعوام، شعاعاً ولو ضئيلاً من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم؟ ولو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربوا في نفسه الأمل حتى يصير حكماً قاطعاً؟ وهَبْهُ امتلأ رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ وكيف يجيئه اليقين في ذلك وهو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين؟ ، فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح، وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها، وكم من نبي قتل، وكم من كتابٍ فقد أو انتقص أو بدل، وهل كان محمد (صلى الله عليه وسلم) ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبياً يوحى إليه {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمةً من ربك} [القصص:٨٦] ولا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظاً لديه {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيراً} [الإسراء: ٨٦-٨٧] ؛ فلابد إذاً من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه، ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المتقلب المملوء بالمفاجآت؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، والذي قدر مبدأها ومنتهاها، وأحاط علماً بمجراها ومرساها، فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة، لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن.

سل التاريخ: كم مرةٍ تنكر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أمماً منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدموا المساجد؛ وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كلاً أو بعضاً كما فعل بالكتب قبله؛ لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعا راياته وأعلامه، حافظا آياته وأحكامه، بل اسأل صحف الأخبار اليومية كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن، وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:٣٦] ، ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يُمسك السماوات والأرض أن تزولا، ذلك بأن الله {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [التوبة: ٣٣] ، والله بالغ أمره ومتم نوره فظهر، وسيبقى ظاهرا، لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله) (١) .

ومثل ذلك ما حصل في حادثة الهجرة وهو مطارد من قريش، وليس معه إلا رجل واحد، والكل يتربص به ليقتله أو يسلمه ليأخذ الجائزة، ثم يقول لسراقة: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى» ثم يتحقق هذا الأمر ويلبسهما في زمن عمر بن الخطاب (٢) .

المطلب الثاني عشر: إخباره بالغيب:


(١) النبأ العظيم، ص:٣٨-٤٧.
(٢) انظر الإصابة لابن حجر في ترجمة سراقة (٣/٤٢) .

<<  <   >  >>