للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد وُفق بعض المستشرقين المنصفين لفهم هذا المعنى وإدراكه؛ يقول (كارليل) (١) : (ومما يبطل دعوى القائلين أن محمدا (لم يكن صادقا في رسالته، أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة، ولم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوي، مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطان، ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب) (٢) . وقد استدل بهذا الدليل حبيب النجار (٣) الذي في سورة يس؛ كما قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مهْتَدُونَ} [يس:٢٠-٢١] .

وهذا الدليل حق، وكان كل نبي يأتي إلى قومه يقول لهم هذا الأمر، ففي سورة الشعراء قال نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠] .

[المطلب الحادي عشر: إخباره بالنهايات في البدايات:]

فقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بكثير من الأمور قبل حصولها، أو حتى حصول مقدماتها، مع أن هذا لا يتأتى من بني بشر (٤) .

فالغيب بيننا وبينه حجاب كثيف، ولا ينخرق هذا الحجاب إلا بوحي من السماء.

نعم، قد يستشرف الإنسان المستقبل ويستقرئه ويستشفه عن طريق مقدمات ودلائل يلتمس منها النفوذ إلى حجاب المستقبل، كما يفعل الساسة والاقتصاديون وغيرهم، ولكنه في الغالب لا يكون صوابا، والصواب منه إنما حصل بسبب حصول مقدماته، كرجل مر على بيت قديم متهاوي، فقال: احذروا هذا البيت فإنه سيقع. قإننا نقول: قد يكون لكلامه شيء من الصحة باعتبار هذه الإشارات التي حصلت. وأما لو مر على بيت جديد محكم البناء، وقد بنُي على أحدث الطرق الهندسية بإشراف مهندسين ومتخصصين وخبراء، فقال: احذروا هذا البيت فإنه سيقع. لقلنا: هذه ترهات وسفاهات لا تصدر من عاقل.

لذلك إذا لم يكن هناك مقدمات وإشارات وقرائن، فلا يمكن لأحد أن يعرف ماذا سيحصل في المستقبل، بل ولا يمكن أن يعرف ماذا سيحصل بعد ثانية: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:٦٥] .

فمثلا لو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) انتصر على العرب، ثم بشر بأنه سينتصر على العجم، لقلنا: إنما قال هذا لحصول مقدمات لهذا الحدث، وهو انتصاره على العرب، ولكن الأمر الغريب أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يبشر بهذه الأمور في ظروف هي أبعد ما تكون توقعا لها.

عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَن قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (٥) .


(١) تقدمت ترجمته ص ١٠٠
(٢) الأبطال، لكارليل، (ص:٥١) عن كتاب الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده، د. محمود ماضي، (ص:١٢٧) ، مكتبة دار الدعوة، الإسكندرية، الطبعة الأولي،١٩٩٦.
(٣) انظر تفسير البيضاوي (٤/٤٢٩) ، وتفسير القرطبي (١٥/١٥) وتفسير ابن كثير (٣/٥٦٩) وغيره من كتب التفسير.
(٤) انظر كتاب: تثبيت دلائل النبوة، للقاضي عبد الجبار الهمذاني (٢/٣١٤) ، حققه د. عبد الكريم عثمان، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، وهو كتاب حافل مليء بالفوائد، لاسيما الأدلة العقلية على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من مدرسة المعتزلة العقلية.
(٥) أخرجه البخاري (كتاب المناقب، باب ما لقي النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه بمكة، رقم:٦٩٤٣) .

<<  <   >  >>