الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأحبابه وأزواجه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فيستمر الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في استعراض أدلة وجوب خبر الواحد: يروي بإسناده عن الإمام مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شرابًا من فضيخ وتمر -يعني: شراب يتخذ من البسر أي: التمر المشقوق- فجاءهم آتٍ فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها. فقمت إلى مهراس لها؛ فضربتها بأسفله حتى تكسرت ... المهراس: عبارة عن حجر مستطيل ومنقور من وسطه كأنه آنية يتوضأ منه وتطحن فيه الأشياء -مثل: الهون، في لغة المصريين التي يطحن به الأشياء- فقام أنس بن مالك أمسك بهذا المهراس وكسر به الجرار التي هي مملوءة بالخمر استجابة لأمر أبي طلحة الذي نفذ الأمر حين سمعوا من يقول لهم: إن الخمر قد حرمت.
أيضًا، وجه الدلالة على أن الذي أخبرهم بتحريم الخمر واحد وهم يشربون، وبدون تردد قاموا وكسروا الجِرار.
يعبر الإمام الشافعي -رضي الله عنه- بأسلوبه العظيم يقول: وهؤلاء في العلم والمكان من النبي وتقدم صحبته في الموضع الذي لا ينكره عالم، وقد كان الشراب عندهم حلال يشربونه، فجاءهم آتٍ وأخبرهم بتحريم الخمر؛ فأمر أبو طلحة -وهو مالك الجرار- بكسر الجرار، ولم يقل هو ولا هم ولا واحد منهم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قربه منا أو يأتينا خبر عامة -يعني الخبر المتواتر-.