فكيف إذا لاحظت أن كثيرًا من السلف كان يزور الحرمين كل عام فكيف إذا كان أحدهما ساكن أحد الحرمين. فكيف إذا ثبت أن الآخر زارهما، وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلد قد زاره الآخر فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا فإنه يكاد يقطع باللقاء.
وزد على هذا أن الإسناد كان شائعًا في عهد السلف لا تكاد تجد أحدًا إلا وهو يقول: عن فلان أن فلانًا أخبره عن فلان مثلاً. مع أن السلف كانوا أهل تثبيت واحتياط.
إذا تقرر هذا فما المانع من الأخذ بهذه الأدلة الظاهرة المحصلة للظن المستوفية لنصاب الحجية.
إن قيل: كان اصطلاح السلف خلاف ما يقتضيه الأصل بدليل شيوع الإرسال فيهم. قلت: أما الإرسال الجلي فمسلم، ولكن أقل من الإسناد كما يعلم بالاستقراء فهو كالمجاز لا يقدح شيوعه في تقديم الحقيقة عليه، وأما الخفي فقليل حتى أنه أقل من التدليس.
فإذا قيل: فإن ذهاب ابن المديني والبخاري - رحمهما الله تعالى - إلى اشتراط اللقاء يدل على شيوع الإرسال الخفي في السلف. قلت: الاستقراء أقوى من هذا الاستدلال مع أن مسلمًا - رحمه الله - نقل في مقدمة صحيحه الإجماع على عدم اشتراط اللقاء - أي قبلهما - كما أشار إليه بالتشنيع على بعض معاصريه فقيل: إنه أراد به البخاري، ولا مانع من أن يريده وشيخه ابن المديني فقد كان أيضًا معاصرًا له.
فلا يخدش خلافهما وخلاف من عاصرهما أو تبعهما في الإجماع السابق على أن أقل ما يثبت بنقل مسلم أن الغالب في عهد السلف أن تكون الرواية على السماع.
والبخاري وشيخه لا ينكران أن الظاهر من الرواية السماع بدليل تصحيحهما لعنعنة الملاقي غير المدلس، فلولا وفاقهما على أن الظاهر من الرواية السماع لكانا إنما يعتمدان مجرد اللقاء فيلزمهما أن يثبتا لكل من لقي شخصًا أنه سمع منه جميع حديثه. وهذا كما ترى.