منهما تمثل نظامًا متكاملًا مستقلًّا من أنظمة الرمز العرفي؛ بحيث ترمز كل علامة فيه إلى معنى معين يختلف عمّا في اللهجة الأخرى لسبب بسيط جدًّا, وهو أن العرف ذاته يختلف في أيّ مجتمع عنه في المجتمع الآخر مهما ضيقنا مدلول كلمة "مجتمع", ولا شك أن الخلط بين نظامين عرفيين من أي نوع سيؤدي في النهاية إلى عدم تمييز أي من النظامين، وهل يمكن لامرئ أن يفهم تقاليد مجتمع وقد خلط بينها وبين تقاليد مجتمع آخر؟
وأما الغاية التي يسعى الشرط الثاني إلى تحقيقها: فهي الفصل بين أي طورين مختلفين من أطوار نمو لهجة واحدة بعينها في دراسة يرجى لها أن تكون وصفية لا تاريخية. فدراسة الأطوار المتعاقبة هي دراسة تاريخية, وهي تكون مطلوبة لذاتها عند إرادة دراسة تاريخ تطور اللهجة, ولقد حمدنا لأصحاب تاريخ الأدب أن يقوموا بدراسة تاريخية لنتاج لغوي ما؛ لأن العنصر التاريخي هنا مقصود لذاته. أما الدراسة الوصفية فإنها تتطلّب حالة يزعمها الباحث ثابتة؛ ليكون وصفه إياها مقبولًا من الناحية المنهجية, على الرغم من أن التطور اللغوي لا يشتمل على حالات ثابتة كتلك التي يزعمها الباحث في اللغة على المستوى الوصفي.
والمعروف أن النحاة العرب درسوا لهجات عربية متعددة ليستخرجوا منها نظامًا نحويًّا موحدًا، وأنهم فوق ذلك درسوا هذه اللهجات في أطوار متعددة من نموها، فلم يفطنوا إلى ضرورة الفصل بين مرحلة ومرحلة أخرى من تطور اللغة كما فعل أصحاب تاريخ الأدب بتطور التعبير اللغوي الجميل.
فلقد اعترف مؤرخو الأدب بعصر جاهلي وآخر إسلامي ثم أموي فعباسي وهلم جرّا، ولكن النحاة أخذوا شواهدهم من فترة لغوية دامت أكثر من خمسة قرون كاملة, "والذين عنهم نقلت العربية, وبهم اقتدي, وعنهم أخذ اللسان العربي من قبائل العرب؛ هم قيس وتميم وأسد, فإن هؤلاء الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه, وعليهم اتُّكِلَ في الغريب وفي الإعراب والتعريف, ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين"١.