في كتابي "مناهج البحث في اللغة" كلام مطول عن الفرق بين الكلام واللغة يستغرق ما يقرب من ثلاثين صفحة كاملة, وفي كتابي "اللغة بين المعيارية والوصفية" اشتملت مقدمة الكتاب على عبارات تفرِّق بين طابع عمل المتكلم وبين طابع عمل اللغوي يمكن أن نوردها فيما يلي: "اللغة إذًا بالنسبة للمتكلم معايير تراعى, وبالنسبة للباحث ظواهر تلاحظ, وهي بالنسبة للمتكلم ميدان حركة, وبالنسبة للباحث موضوع دراسة, وهي بالنسبة للمتكلم وسيلة حياة في المجتمع, وبالنسبة للباحث وسيلة كشف عن المجتمع.
المتكلم يشغل نفسه بواسطتها, والباحث يشغل نفسه بها, ويحسن المتكلم إذا أحسن القياس على معاييرها, ويحسن الباحث إذا أحسن وصف نماذجها. اختلاف الأساليب في استخدامها اختلاف في الجمال والفن والتطبيق, واختلاف الطرق في بحثها اختلاف في الدقة والتناول والبحث, والنص على لسان الأديب موضوع للتذوق, ولكنه في يد الباحث موضوع للدارسة, وأخيرًا اللغة في خدمة المجتمع والمنهج في خدمة اللغة".
ولست أجد لديّ الآن ما أعار به هذا الذي قلته في سنتي ١٩٥٥ و١٩٥٨, ولكن الأغراض العملية لهذا الكتاب تتطلب مني أن أخوض في موضوع التفريق بين الكلام وبين اللغة من زاوية جديدة عير الزاوية المنهجية البحتة, تلك هي زاوية طبيعة كلٍّ منهما وتكوينه. فالكلام عمل واللغة حدود هذا العمل, والكلام سلوك واللغة معايير هذا السلوك, والكلام نشاط واللغة قواعد هذا النشاط, والكلام حركة واللغة نظام هذه الحركة, والكلام يحس بالسمع نطقًا والبصر كتابة واللغة تفهم بالتأمل في الكلام. فالذي نقوله أو نكتبه كلام، والذي نقول بحسبه ونكتب بحسبه هو اللغة, فالكلام هو المنطوق وهو المكتوب, واللغة هي الموصوفة في كتب القواعد وفقه اللغة والمعجم ونحوها. والكلام قد يحدث أن يكون عملًا فرديًّا, ولكن اللغة لا تكون إلا اجتماعية.