اللغة, وخرجنا من دائرة الصمت اللغوي إلى دائرة النطق الكلامي, أي: من حيز السكون إلى حيز الحركة, ومن حيز الإمكان إلى حيز التطبيق. وحاصل جمع "المعنى الوظيفي" التحليلي, و"المعنى المعجمي" الذي للكلمات, لا يساوي أكثر من "معنى المقال" أو "المعنى اللفظي" للسياق, أو معنى ظاهر النص كما يقول الأصوليون, ولا يزال السياق حتى بعد الوصول إلى هذا المعنى اللفظي بحاجة إلى "معنى المقام" أي: المعنى الاجتماعي الذي يضم القرائن الحالية إلى ما في السياق من قرائن مقالية, وبهذا يتمّ الوصول إلى "المعنى الدلالي".
وسنرى فيما بعد أن "المقام" هو حصيلة الظروف الواردة relevant طبيعية كانت أو اجتماعية أو غير ذلك, في الوقت الذي تَمَّ فيه أداء المقال speech event, أما الظروف غير الواردة irrelevant فلا ضرورة لإرباك خطة تحليل المعنى بذكرها وشرحها, وما دام المعنى على إطلاقه مركبًا على هذا النحو الذي يبدو من تشقيقه, فإنَّ أيّ شق من المعنى لا يكفي بمفرده للإفادة والفهم, فلا يكفي مجرد فهم النظام الصوتي للغة ما لأن نفهم مقالّا بهذه اللغة, بل لا يكفي لذلك حتى فهمنا للنظام الصرفي أو النحوي للغة المذكورة، بل لا يكفي أيضًا أن نفهم المعنى المعجمي لحشدٍ كبير من كلمات هذه اللغة أيضًا لأن نفهم المعنى فهمًا كاملًا ما دام "المقام" غير مفهوم.
ويقع في تجاربنا أحيانًا أن نرى اثنين يعمدان إلى التخصص في لغة أجنبية, فيتخصص أحدهما في اللغة ذاتها, ويتخصص الثاني في أدبها, فأما الذي تخصّص في اللغة فقد طلب موضوعًا يخضع للتقعيد, ومن ثَمَّ للفهم السريع وللتحصيل السريع أيضًا, فينجح في مهمته بيسر نسبي, وأما الذي تخصَّص في الأدب فسيجد نفسه وجهًا لوجهٍِ مع التحدي الهائل الذي يفرضه فهم المقامات المختلفة التي تقع في إطار ثقافة أجنبية عنه بما تشتمل عليه هذه المقامات من علاقات اجتماعية وعقلية وذوقية وعاطفية دقيقة متشعبة لا يفهمها وينفعل بها إلّا أبناء البيئة ذاتها, ولا يمكن الحصول على بعضها من مجرد قراءة تاريخ هذا المجتمع ولا أدبه، ذلك بأن إطار الثقافة الاجتماعية لكلِّ أمة يفرض