للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد جعل الزيادة والوفور حياة للمال وتفريقه في العطاء قتلا له، ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم والقتل فعلا للتبسم، مع أن كلا منهما لا يصح منه الفعل.

وقد وقع هذا المجاز في التنزيل نحو: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ١، فقد نسبت الزيادة إلى الآيات لكونها سببا، ونحو: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} نسب الذبح إلى فرعون؛ لأنه الآمر به والسبب فيه، ونحو: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} ٢، فقد أسند الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه.

"قرينته" قرينة هذا المجاز إما لفظية، كقول أبي النجم العجلي:

ميز عنه قنزعا عن قنزع ... جذب الليالي أبطئ أو أسرعي٣

فقد استدللنا على أن إسناد ميز إلى جذب الليالي مجاز بقوله بعده:

أفناه قيل الله للشمس اطلعي ... حتى إذا واراك أفق فارجعي

فإنه يدل على أن ذلك فعل الله، وأنه هو المفتي، فيكون إسناده إلى جذب الليالي من الإسناد إلى الزمان.

وإما غير لفظية، كاستحالة صدور المسند من المسند إليه، أو قيامه به عقلا، نحو: محبتك جاءت بي إليك، أو عادة نحو: بنى الوزير القصر، وكصدور الكلام من الموحد، كما في إسناد الإشادة والإفناء إلى كر الغداة في قوله الصلتان للعبدي:

أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي

إذا ليلة هرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتى

"تنبيهات" الأول: قال عبد القاهر: هذا الضرب من المجاز، على حدته، كنز من كنوز البلاغة ومادة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طرق البيان، ولا يغرنك من أمره أنك ترى الرجل يقول: أتى بي الشوق إلى لقائك، وسار بي الحنين إلى رؤيتك، وأقدمني بلدك حق لي على إنسان،


١ سورة الأنفال الآية: ٢.
٢ سورة المزمل الآية: ١٧.
٣ ميز: فصل، وعنه أي: عن رأسه، والقنزح: الشعر المجتمع في نواحي الرأس، وجذب الليالي: مضيها وتعاقبها. وابطئ أو أسرعي حال من الليالي على تقدير القول.

<<  <   >  >>