للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحضارة التي غذوا بلبانها، وربوا في أحضانها، ولم يكن الغرب ليحلموا بها من قبل، ولو أن القدر أتاح لهم أن يروا زخارف تلك المدنية، وطرائف لطائفها، لكان لهم شأن في آدابهم، ومهيع في أساليبهم غير شأنهم هذا.

جـ- أضف إلى تلك الضوضاء وذلك اللجب، ما شجر من الخلاف بين أئمة الأدب وأساطينه، في بيان وجوه تحسين الكلام حتى يرقى في سلم البلاغة، وينال قسطه من الفصاحة، وتناقضت آراؤهم في ذلك أيما تناقض، ففريق مال إلى رصين الكلام الجامع بين العذوبة والجزالة، وفريق أولع بالمنطق الموشى المشتمل على صنعة البديع، يرشد إلى ذلك ما تراه في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة ٢٧٦هـ حين حكم على تلك الأبيات المشهورة لكثير عزة بأنها مونقة خلابة في لفظها, لكنك إذا فتشتها وبحثت عن ذات نفسها لم تحل منه بطائل، وهي:

ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على حدب المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح

ثم ما تجده في كتاب "الصناعتين" لأبي هلال العسكري من استحسان هذه الأبيات, ونقد حكم ابن قتيبة واتهام ذوقه، ووافقه على نقده أبو الفتح بن جني المتوفى سنة ٣٩٢هـ في كتاب "الخصائص"، والإمام عبد القاهر في "أسرار البلاغة" وأطال الإطراء لثالثها إلى غير ذلك من مختلف الآراء مما لسنا بصدد سرده الآن.

كل أولئك لفت أنظار أئمة البلاغة إلى أن يصنعوا قوانين وضوابط يتحاكمون إليها عند الاختلاف، وتكون دستورا للناظرين في آداب العرب، منثورها ومنظومها، ونشأ من ذلك البحث في علوم البيان، أو علوم البلاغة.

٢- أول من دونها:

لا نعلم أحد سبق أبا عبيدة معمر بن المثنى الراوية تلميذ الخليل بن أحمد المتوفى سنة ٢١١هـ. فقد وضع كتابا في علم البيان سماه "مجاز القرآن" لكنه لم يرد بالمجاز الوصف الذي ينطبق على ما وضع من القواعد بعد، بل هو أشبه بكتاب

<<  <   >  >>