يغشى الناس الأسواق إذًا لمآرب شتى، وغايات متباينة؛ فمن طالب قاتل أبيه يريد ليعرفه حتى يتربص به السوء فيما بعد، ومن ملتمس حماية شريف من عدو ألد، ومن باغٍ زوجا، أو مستطيل بعز ومنعة، أو جالس ليأتيه أتباعه بإتاوة، ومن عارض سلَب قتيل ليبيعه فيظفر به أهل القتيل، ومن فرسان يتقنعون، بعضهم حذرا من غدر أهل التارات، وآخرون يردون مقنعين خوفا من العين وحذرا على أنفسهم من النساء لجمالهم١، ومن بغايا ضرب عليهن القباب، وشبان يتعرضون للمتبرقعات من النساء ... إلى آخر ما هناك مما سيمر بك مفصلا, وخاصة عند الكلام على عكاظ.
ولا يقل شأنًا عن النشاط التجاري في أسواقنا تلك، أثر هذا الاختلاط في اللغة والدين والعادات، فإن قيام قريش عليها الأعوام الطويلة قبل البعثة، مكّنها من أن تتبوّأ في اللغة المكان الأعلى؛ لأن لغات القبائل عامة يمنيها وعمانيها وشاميها وعراقيها ونجديها وتهاميها, تطرق مسامعها على الدوام فتختار منها ما يحسن، وتنفي ما يقبح. وقامت على هذا الاصطفاء زمنا كافيا حتى خلصت لها هذه اللغة الممتازة،
١ عدّ أبو الفرج الأصفهاني من هؤلاء: وضاح اليمن والمقنع الكندي وأبا زبيد الطائي. الأغاني ٦/ ٣١ طبعة الساسي.