صنع عبد الملك بن مروان طعاما, فأكثر وأطاب ودعا إليه الناس فأكلوا, فقال بعضهم: "ما أطيب هذا الطعام، ما نرى أن أحدا رأى أكثر منه, ولا أكل أطيب منه! " فقال أعرابي من ناحية القوم: "أما أكثر فلا, وأما أطيب فقد والله أكلت أطيب منه" وطفقوا يضحكون من قوله. فأشار إليه عبد الملك فأُدني منه، فقال: "ما أنت بمحق فيما تقول إلا أن تخبرني بما يبين به صدقك" فقال: "نعم يا أمير المؤمنين: بينا أنا بهجر في ترب أحمر في أقصى حجر, إذ توفي أبي وترك كلا وعيالا وكان له نخل، فكانت فيه نخلة لم ينظر الناظرون إلى مثلها كأن ثمرها أخفاف الرباع، لم ير تمر قط أغلظ ولا أصلب ولا أصغر نوى ولا أحلى حلاوة منها, وكانت تطرقها أتان وحشية قد ألفتها تأوي الليل تحتها فكانت تثبت رجليها في أصلها وترفع يديها وتعطو بنيها فلا تترك إلا النبذ والمتفرق, فأعظمني ذلك ووقع مني كل موقع, فانطلقت بقوسي وأسهمي وأنا أظن أني أرجع من ساعتي, فمكثت يوما وليلة لا أراها حتى كان السحر, فأقبلت فتهيأت لها فرشقتها فأصبتها وأجهزت عليها, ثم عمدت إلى سرتها فافتريتها، ثم عمدت إلى حطب جزل فجمعته إلى رضف, ثم عمدت إلى زندي فقدحت وأضرمت النار في ذلك الحطب وألقيت سرتها فيها وأدركني نوم السبات فلم يوقظني إلا حر الشمس في ظهري, فانطلقت إليها فكشفتها وألقيت ما عليها من قذى أو سواد أو رماد ثم قلبت مثل الملاءة البيضاء, فألقيت عليها من رطب تلك النخلة المجزعة والمنصفة فسمعت لها أطيطا كتداعي عامر وغطفان, ثم أقبلت أتناول الشحمة واللحمة فأضعها بين التمرتين وأهوي إلى فمي، فيما أحلف: إني ما أكلت طعاما مثله قط". فقال له عبد الملك: لقد أكلت طعاما طيبا ... إلخ.