أختم الكلام عن الحيرة بهذا الدرس البليغ الذي ألقاه علينا أحد فتيان الحيرة منذ ثلاثة عشر قرنا في حب الوطن ونصرته. وهو درس عملي يخلق بقادة الفكر وزعماء العرب أن يستفيدوا منه فيكونوا قدوة في الوطنية العملية الحقيقية.
بلغ العرب في الاعتماد على أنفسهم والاقتصار على صناعاتهم في جميع شئونهم أمرا عجيبا، حتى إن بلدة كالحيرة ليست من البلدان الكبرى حينئذ في الأقطار الإسلامية، استطاع أهلها أن يعتمدوا على محصول بلدتهم ويكتفوا به في كل حاجاتهم حتى الكمالية منها. نرى ذلك في هذا الخبر الطريف الذي سنرويه لك عن الأغاني, ونود لو جرؤنا على تقليد أسلافنا في مكرمتهم تلك، إذًا لكنا حذفنا درسا في الإخلاص الصادق للوطن، ولما استعبدتنا أموال الغرب وشركاته، ولما كنا جميعا رجالا ونساء وأطفالا، جنودا لهم -على رغم أنوفنا- نوطد أقدامهم في بلادنا بما نتهافت على استهلاكه من بضائعهم، وبما يطير من جيوبنا إلى خزائنهم ومصانع أسلحتهم من أموال باهظة، لا داعي إلى تبذيرها إلا التقليد الأعمى وقشور التمدن السخيف والترف الكاذب, وإليك هذه الطرفة الثمينة.
كان بعض ولاة الكوفة يذم الحيرة أيام بني أمية، فقال له رجل من أهلها وكان عاقلا ظريفا:"أتعيب بلدة بها يضرب المثل في الجاهلية والإسلام؟! ".
قال:"وبماذا تمدح؟ " قال: "بصحة هوائها وطيب مائها ونزهة ظاهرها, تصلح للخف والظلف. سهل وجبل، وبادية وبستان، وبر