للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى وقت كانت فيه حاجتهم ماسة إلى شريعة جامعة لأصول الشرائع كلها, تعدِّل المسار وتصحِّح المعتقد, وترد الناس إلى فطرتهم التي فطرهم الله عليها.

فكان أن بعث الله محمدًا -عليه الصلاة والسلام- بهذا الدين الحنيف الذي ختم به الأديان، وأقام به الحجة على عباده، وألزم جميع المكلَّفين باعتناقه والعمل بشرعه، وترك ما لم يوافقه من الشرائع السابقة؛ فإنَّ فيها ما كان صالحًا لهم ولنا، وفيها ما كان صالحًا لهم قبل مجيء شرعنا الحنيف, غير ملائم لهم ولا لنا في شرعنا -كما عرفت.

فجاءت هذه الشريعة الغرَّاء إلى الناس تمشي على مهل متألفة لهم، متلطفة في دعوتهم، متدرجة بهم إلى الكمال رويدًا، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئًا فشيئًا، منتهزة فرصة الألف والمران والأحداث الجادة عليهم؛ لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب، حتى تمَّ الأمر, ونجح الإسلام نجاحًا لم يُعْرَفْ مثله في سرعته, وامتزاج النفوس به, ونهضة البشرية بسببه.

أو تسير بهم من الأصعب إلى الصعب، ومن الصعب إلى السهل، ومن السهل إلى الأسهل ترفيهًا عنهم، وإظهارًا لفضل الله عليهم ورحمته بهم، وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده، وتحبيب لهم فيه وفي دينه.

أو تسير بهم من تكليف إلى تكليف آخر مساوٍ له؛ لابتلائهم وامتحان قلوبهم، فتظهر طاعة المطيع وعصيان العاصي.

فالنَّسْخُ نوع من التدرج في التشريع، روعي فيه مصالح العباد في العاجل والآجل؛ فإن من الأمور التكليفية ما يصلح في وقت دون وقت، وفي حال دون حال, فأخذ الله عباده بالحكمة، فوضع لهم من التشريعات ما يناسبهم على اختلاف درجاتهم وبيئاتهم وأحوالهم.

والنَّسْخُ وسيلة من أعظم الوسائل التربوية في وقت كان الناس فيه يعانون من انحلالٍ خلقي واجتماعي يصعب عليهم التخلُّص منه دفعة واحدة, كما يصعب عليهم أن يتحمَّلوا في بداية أمرهم بالإسلام جميع التكاليف التي أناطها بهم.

<<  <   >  >>