للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له، مطابِقة للمعنى الذي وردت من أجله.

فأمَّا جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان لحم إنسان آخر مثله, فشديد المناسبة جدًّا؛ لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه؛ لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة.

وأما جعله كلحم الأخ فلِمَا في الغيبة من الكراهة؛ لأن العقل والشرع مجتمان على استكراهها، آمران بتكرها والبعد عنها، ولمَّا كانت كذلك جُعِلَت بمنزلة لحم الأخ في كراهته.

ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر, إلّا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه، فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة.

وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة, فلما جُبِلَت عليه النفوس من الميْلِ إلى الغيبة، وبشهوة لها، مع العلم بقبحها.

فانظر أيها التأمِّل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهًا، لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها، وجدتها مناسبة لما قُصِدَت له". انتهى١.

وهكذا نجد العلماء في كل زمانٍ ومكانٍ يحلِّقون في سماء القرآن لاستنباط معانيه من خلال مبانيه، ويبحثون في جِدٍّ عن لطائفه البلاغية، ودقائقه اللغوية، ليقفوا من وراء ذلك كله على معانيه ومراميه بقدر طاقتهم البشرية.

لكنهم لا يحصلون منه إلّا غرفة من بحر، أو رشفة من غيث، فهو كتاب الله القويم، وحبله المتين ونوره المبين.


١ انظر "محاسن التأويل" للقاسمي ج١٦ ص٥٤٦٦.

<<  <   >  >>