للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العقل وحدَه؛ لأنه ليس كتاب فلسفة يقف عند حدود سرد المقدمات، واستنتاج النتائج، في أسلوب متقعِّر أو جافٍّ متحجِّر.

ولا يخاطب القلب وحده، لأنه ليس كتاب أدب يعذب فيه الكذب، ويروق فيه الخيال المفرط، وإنما هو -كما قلنا أكثر من مرة- كتاب هداية ومنهج حياة، يهدي الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم في الدنيا والآخرة، ويقودهم إلى ساحات الخير والفضل الإلهي، فيدعوهم إلى الإيمان بخالقهم -عزَّ وجلَّ- في سلاسة أسلوب، وعذوبة منطق، وقوة حجة لا تدع لهم مجالًا للشك والارتياب.

والإيمان بالله يتطلَّب استجابة العقل والقلب معًا، فالعقل والقلب من الإيمان كجناحي طائر لا يطير بأحدهما دون الآخر.

يضاف إلى ذلك أنه يُرْضِي بأسلوبه العامة والخاصة، وهو أمر لا يتوفَّر لشيء من كلام الناس، حتى ما يُسَمَّى عند الأدباء بالسهل الممتنع، إذ إن أسلوب القرآن ليس سهلًا ممتنعًا فحسب، ولكنه معجز، له جلال يقتحم أعماق القلوب من غير حاجزٍ أو مؤثِّرٍ خارجي.

ومعنى ذلك أنه إذا تُلِيَت آياته على العامة والخاصة وجدوا جميعًا في سماعه حلاوة تتذوقها القلوب قبل أن تصل إلى الأسماع.

ولا تعجب من هذا القول، فإنك لو تهيَّأت لتلاوته أو سماعه بقلب مفتوح مجرَّد عن الشهوات والشبهات لسبق قلبك إلى تلاوته لسانك، وسبق إلى سماعه أذنيك, ومن ذاق عرف.

والعامة والخاصة من الناس ليسوا سواء -بالطبع- في تذوّق حلاوة القرآن، بل إن الخاصة متفاوتون أيضًا في التذوّق بحسب استعدادهم الوهبي والكسبي, وبحسب تفاوتهم في درجات الإيمان والإخلاص والصفاء الروحي والذهني.

ومن هنا كانت لدعوة القرآن الكريم إلى التدبُّر في آياته صدى في نفوس العلماء حملتهم على اتخاذ كل الوسائل التي تعينهم على ذلك، فأفنَوْا في طلب العلم أعمارهم، وأفرغوا في تفهُّم آيات القرآن جهدهم، فكانوا بين شغوف ببيان أحكامه، ومولَع ببيان الجمال الفني في تعبيره وتصويره، ومهتَمٌّ

<<  <   >  >>