للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَنَازَعَوا في ذلك على ثَلَاثَةِ أَقوالٍ؛ فقال: «فَأَمَّا مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ الكُفَّارِ فَأَوَّلُ مَا انْتَشَرَ الكَلَامُ فِيهَا، وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا- فِيمَا بَلَغَنَا- بَعْدَ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الهِجْرَةِ، وَأَمْسَكَ عَنْ الكَلَامِ فِي هَذَا قَوْمٌ مِنْ العُلَمَاءِ، وَتَكَلَّمَ فِيهَا آخَرُونَ؛ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، مَعَ أَنِّي مَا عَلِمْت أَنَّ أُولَئِكَ المُخْتَلِفِينَ فِيهَا تَلَاعَنُوا وَلَا تَهَاجَرُوا فِيهَا؛ إذْ فِي الفِرَقِ الثَّلَاثَةِ قَوْمٌ فِيهِمْ فَضْلٌ، وَهُمْ أَصْحَابُ سُنَّةٍ».

ثم قال -رحمه الله-: «وَالأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي (رُؤْيَة الكُفَّارِ):

أَحَدُهَا: أَنَّ الكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ بِحَالِ؛ لَا المُظْهِرُ لِلكُفْرِ، وَلَا المُسِرُّ لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ العُلَمَاءِ المُتَأَخِّرِينَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عُمُومُ كَلَامِ المُتَقَدِّمِينَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَرَاهُ مَنْ أَظْهَرَ التَّوْحِيدَ مِنْ مُؤْمِنِي هَذِهِ الأُمَّةِ، وَمُنَافِقِيهَا، وَغَبَرَاتٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَذَلِكَ فِي عَرْصَةِ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْ المُنَافِقِينَ، فَلَا يَرَوْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ خُزَيْمَة مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ القَاضِي أَبُو يَعْلَى نَحْوَهُ فِي حَدِيثِ إتْيَانِهِ -سبحانه وتعالى- لَهُمْ فِي المَوْقِفِ؛ الحَدِيث المَشْهُور.

الثَّالِثُ: أَنَّ الكُفَّارَ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةَ تَعْرِيفٍ وَتَعْذِيبٍ؛ كَاللِّصِّ إذَا رَأَى السُّلطَانَ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ؛ لِيَعْظُمَ عَذَابُهُمْ، وَيَشْتَدَّ عِقَابُهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَوْلِ غَيْرِهِمْ؛ وَهُمْ فِي الأُصُولِ مُنْتَسِبُونَ إلَى الإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِلَى سَهْل بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّسْتري» (١).

وممَّن رَجَّحَ رؤيَةَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ للهِ فِي عَرَصاتِ القيامةِ العَلَّامةُ ابنُ القيِّم -رحمه الله- فِي «حادي الأرواح» (ص ٢٦٢).


(١) «مجموع الفتاوى» (٦/ ٤٨٦).

<<  <   >  >>