للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} - إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء، ولم يَنف مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يرى مدح؛ إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحًا، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُؤي، كما أنه لا يحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلم لا يحاط به علمًا، فكذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحًا وصفة كمال، وكان ذلك دليلًا على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة. وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.

وإذا تأملت ذلك وجدت كلَّ نفي لا يستلزم ثبوتًا هو مما لم يصف به نفسه» (١).

ثم إن النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه- فيه إساءة أدب مع الله سبحانه؛ فإنك لو قلت لسلطان: أنت لستَ بزبَّال ولا كسَّاح ولا حَجَّام ولا حائك؛ لأَدَّبَك على هذا الوصف وإن كنت صادقًا.

وإنما تكون مادحًا إذا أجملت النفي؛ فقلت: أنت لستَ مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجَل، فإن أَجملت في النفي أجملت في الأدب (٢).

فأهل الكلام المذموم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المُجمل؛ فيقولون: ليس بجسم ولا شَبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عَرَض .. إلى آخر تلك السُّلوب الكثيرة التي تَمُجُّها الأسماع، وتأنف مِنْ ذكرها النفوس، والتي تتنافى مع تقدير الله تعالى حقَّ قدره (٣).

الأمر الخامس: أن الرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مُفَصَّل ونفي مجمل.


(١) «الرسالة التدمرية» (ص ٢١ - ٢٣).
(٢) «شرح العقيدة الطحاوية» (ص ١٠٨ - ١١٠).
(٣) «الصفات الإلهية» (ص ٢٠٢).

<<  <   >  >>