للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حفر لهما صورة لا تنسى، وكان كلما مضى يشق دروب الحياة مثلا أمامه شاخصين يوهنان من عزمه ويردانه إلى الماضي ويجرانه إلى حلم طويل. وكان مما زاد في تعلقه بهما انه دفن في ثراهما أمه، فأصبح هذان المكانان هما الطبيعة - الأم، مجازا وحقيقة، وازداد إمعاناً في توثيق الوشائج بين قلبه وقلبيهما حين خيل إليه أن أباه قد أساء إلى علاقة مقدسة بزواج ثان، وشغل بزوجه الجديدة عن أطفاله، فدفع بالطفل إلى مزيد من التعلق بعرق الثرى، وفترت علاقته بوالده الذي يمثل الجحود والعصا وصوت المؤدب، ومضى يبحث عن أمه فوجد صورتها وقلبها الطيب في جدته التي تعيش في جيكور، وهكذا تضاءلت صلته ببقيع، فلم يكن يذهب إلى بيت أبيه إلا لماما، وكان أبوه يعتد هذا جفاء وإعراضا، لأنه كان يرجو لو أن أولاده ظلوا في كنفه وكنف " أمهم " الجديدة.

ولجيكور ميزة أخرى على بقيع لأن الطفل يحس كلما ذهب إليها انه منفرد أو كالمنفرد بعطف جدته وحنانها، أما بقيع فليست هي تجسيدا لزوجة الأب وحسب، بل أن بيت العائلة فيها يعج عجيجا بالناس من كبار وصغار ويلتقي فيه ثلاثة، وتحنو فيه كل أم على أطفالها، دون أن تجد متسعا في قلبها لطفل غريب، ويكبر الشعور في نفس الطفل؟ في ذلك الدور الغض - بأنه محروم مطرود من دنيا الحنو الأمومي، ولذا فهو يفر من بقيع فراره من الوحش الهائل الذي يكاد ينشب فيه مخالبه، وينأى عن ذلك الصخب الكثير، إلى طرفة تدسها جدته في جيبه، وقبلة تطبعها على خده، وابتسامة تنسيه ما يلقاه من عنت أو عناء.

والصخب يشتد في البيت الكبير الذي تتلاقى فيه الأجيال المتفاوتة

<<  <   >  >>