ولكن الموت لا يخيف، لأنه يلد الحياة، والجوع والظمأ لا يخيفان لأنهما سيفرجان عن شبع وري. الحقيقة الكبرى هي ان الطبيعة أم حانية: كلتاهما قد تبكي فتعبث اللوعة في نفوس، ولكن هذا البكاء بدء حياة جديدة، لأن قانون الحياة يقول: أن المطر لا بد من أن يلد عشبا، وشبعا وريا، وهذا الشبع والري من حق الذين يصنعون الحياة بدمائهم وليس من حق الغربان والجراد والأفاعي.
ها هنا الوحدة الكلية بين الفتى والأم والطبيعة والبائسين من بني الإنسان، مثلما هي الوحدة الكلية بين النشيد المتصل في القصيدة وشخوصها وبين الأضداد الظاهرية من حزن وابتسام وجوع وشبع وظمأ وري، لأن قوة التحول لن تجعلها أضداد إلى الأبد.
القصيدة بسيطة: لفظة واحدة استطاعت ان تغوص إلى سر الوجود، كما استطاعت ان تربط خيوطا مختلفة، وان توحد الطاقات في حبل قوي، هو حبل الأمل، فلم يعد الشاعر منفصلا بمشاعره الذاتية، ولم تعد النظرة الإنسانية مفروضة على هذه المشاعر من مبدأ خارجي، وإنما هي تسترسل؟ كما يسترسل المطر - من طبيعة الموقف كله، أنها صورة التلاحم بين الخصب والجوع دون إغراق في التصوير واستجلاب للانفعالات، وخروج بالأسى عن وقدته الطبيعية التي تشبه وقدة النار تحت الرماد. ومع أن عرض القصيدة قد اظهر كثيرا من الصبغة التقريرية، فأنها في الواقع من اشد قصائد السياب اعتماد على ألا لماح السريع والربط الداخلي، أول قصيدة من نوعها في شعره، وهي فاتحة ما يمكن ان يسمى " شعره الحديث " - اعني أنها في داخلها مبينة بنا تكامليا، وفي خارجها تتكئ على دورات متصاعدة، قليلة الاستطراد إلى الجزئيات التي تنحرف بها عن وجهتها العامة وعن غايتها النهائية. وإذا غاص القارئ بإحساسه الطبيعي في أعماقها وجد نهرا يعب كأنه صورة الخليج المرئي: فيه