للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يتلذذ بتعذيب الذات في المقارنة بين موته وموت من هم على شاكلته وبين الأحياء، ويتملكه الشعور بالخجل بل بالخزي من انه لم يستطع بعد أن يهب من رقدة القبر، أو أن ينطلق من ذلك الرحم المظلم؟ أن الصراع بين الحقيقة الداخلية في الكهف؟ أي الموت - وبين الحياة في خارجه هو لحمة تلك القصائد وسداها، وهذا لا يتضح إلا إذا عرضنا لكل قصيدة منها بشيء من التحليل.

وأول هذه القصائد وهي " في المغرب العربي " تصور إنسانا ميتا في الحقيقة ولمنه حين استيقظ رأى قبره؛ وهذا رمز لإنسان الشرق العربي الذي تحطمت حضارته (رمزها المئذنة التي كان قد كتب عليها اسم الله ومحمد) واندثرت، وأخذ الغزاة الحفاة (لأنه لا حضارة لهم) يركلون ذلك الحطام بأقدامهم دون أي اهتمام بقداسة تلك الرموز الحضارية؛ وعلى مقربة من قبر هذا الميت العائد إلى اليقظة كان هناك قبر جده صنع تلك الحضارة، وصوته ينبعث من وراء القبر (١) :

يا ودياننا ثوري

ويا هذا الدم الباقي على الأجيال

يا ارث الجماهير

تشظ الآن واسحق هذه الأغلال

وقد حقق هذا الجد انتصارات في ذي قار، ولكن أبناءه انقسموا فريقين، فريق حمل راية الثورة في جبال الريف وفريق عرف عار الهزيمة في يافا. ترى ما الذي حطم هذه الحضارة؟ أنها غارات الجراد من تتر وصليبيين وهما سيان، فلما اندحر الصليبيون بالأمس جاءوا اليوم ينتقمون لانفسهم من قوتنا وانتصارنا وانتصار إلهنا؛ وهكذا ارتبط الماضي والحاضر بارتباط قبرين (كهفين متجاورين يعيش فيهما


(١) أنشودة المطر: ٨٤.

<<  <   >  >>