للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إن الذين مهدوا للسياب سبيل السفر إلى إحدى الجامعات الإنكليزية ليدرس فيها ويتفرغ لتدوين مذكراته قد غفلوا عن حقيقة هامة: وهي عجز السياب الفاضح عن كتابة مذكرات ذات طابع تاريخي فني متناسق وتدرج محكم؛ إذ لو فعل ذلك لصب مادة شعره كلها على شكل نثري؛ ولهذا اختار هو الشكل الشعري فكتب ثلاثة دواوين وبعض رابع تحدث فيها عن ذكريات الماضي وعن ابرز لحظات الحاضر، وواضح ان جانبا كبيرا من الماضي إنما اعتمد على الحلم وان اكثر الحاضر كان خلوا من الأحداث ومعنى ذلك ان السياب لو حاول ان يكتب مذكراته لجاءت مخفقة بطيئة ضعيفة الحركة وهي انا أن تعتمد التأمل في تجارب الماضي والحاضر، وذلك شيء لا يحسنه، وأما أن تحوي أحداثاً مثيرة (عدا فترة الخصومة مع الشيوعية) وهو لا يملكها. ولهذا أحسن صنعا بمذكراته حين صاغها في قوالب شعرية.

وتكاد كل صور الماضي تستعاد من جديد: فتحيا الأساطير القديمة التي تحكي عن الجنية وسندباد وقمر الزمان وعنتر وتصحو " وفيقة " من هجعتها العميقة ويتراءى للعين شباكها الذي يمثل نافذة الأمل، ويعود خيال ابنة الجلبي وشناشيل شباكها؛ ويلخص الشاعر تاريخ حياته في قصيدة " ليلة في العراق " (١) كما يتحدث عن تاريخ حبيباته السبع وعن مصايرهن في قصيدة " أحبيني " (٢) ؛ حتى الراعي القديم ينبعث حيا ليتحدث إلى النهر الذي عرفه في الصبا، وليجدد العهد لهالة (٣) ؛ وفي ليلة شتائية كثيرة المطر والثلج بلندن رأى فتاة ذكرته بآخر فتاة احبها قبل زوجته (٤) كذلك عاد يستحث تصوراته القديمة عن


(١) الشناشيل: ٣٩.
(٢) الشناشيل: ٥٩.
(٣) انظر قصيدة " يا نهر " في المعبد الغريق: ٨٤ - ٨٨.
(٤) منزل الاقنان: ٧٠.

<<  <   >  >>