للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصَفَت الموارد من كدرها، وتهذّبت من عكرها، وخلصت الأرض من حمارة قيظها ورمضائها؛ وإجماع الناس على محبة ريح الشمال وإيثارها على الرياح الأربع مشهور لا اختلاف فيه، وإنما تحمد في الخريف لا في الربيع لأنها في ذلك الزمان تقوي النفوس، وتجذب للناس النشاط والظرف، وتصلح عليها المرضى وتقوى أجسامهم، وكل علّة يطول مكثها إنما تحدث في إقبال الصيف وتُقلع في إقبال دخول الشتاء، وهي تستحيل في الربيع بخلاف هذا لأنها تتلف الغلاّت وتفسدها، ولا يكون سقوط البَرَد فيه إلا في الشمال ولا تكون الزلازل والصواعق إلاّ معها، وقوله عزّ وجلّ: (فأهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية) ، قال المفسرون هي ريح الشمال.

وفي الخريف إقبال كل خير، وفيه المطر الوسميّ الذي يتباشر به الناس ويتبركون به، وتكثر عليه العمارة وتزيد فيه الأنهار، ويكره المطر في الربيع لأنه يفسد الغلاّت ويهدم المنازل، فهو في الخريف سقيا وشراب، وفي الربيع صواعق وعذاب، وفي هذا غيثٌ يُرجى صلاحه، وفي ذاك غيث يُخشى فساده؛ وبرد ماء الخريف مستطاب دون ماء سائر السنة؛ وكانت العرب تقول في من مات في أول الخريف: مات ولم يشرب ماء الخريف. وكان ابن الرومي يفضل الخريف على سائر فصول السنة، وقال وهو يجود بنفسه: ما آسى من دنياكم إلاّ على ثلاث: هواء التشارين والرطبِ الأزاد كأنه أولادُ الملوك في الغلائل الممسكة، واطلاعةٌ في وجه نجاح.

٦٥٢ - أبو نواس (١) :

أتى أيلولُ وانقشعَ الحرورُ ... وأخبتْ نارها الشعرى العبورُ

فقوما فالقحا خمراً بماءٍ ... فإن نتاج بينهما السرور

نتاجٌ لا تدر عليه أمّ ... وحملٌ لا تُعَدُّ له الشهور

إذا الكاسات كر بها علينا ... تكوّنَ بيننا فَلَكٌ يدور ٦٥٣ - شاعر:

انظر دمشقَ وقد رقت محاسنها ... كغادةٍ أَعْصَرَتْ بالحسنِ في الغيدِ

أجرى الخريفُ أصيلاً في الغصون بها ... صبحاً فأثْمرَ تبراً كلُّ أُملود

تمَّتْ بها ذهبياتٌ ذهبن بأل ... بابِ الذين سبوا ماءَ العناقيد


(١) لم ترد في ديوانه.

<<  <   >  >>