للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يهاجر خلف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقف أمام المشركين موقفًا أذل فيه أنوفهم، وأظهر عجزهم، وألقى الرعب في قلوبهم. وتأملوا ما قاله الإمام الحبر عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال لي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: ما علمت أن أحدًا من المهاجرين هاجر إلا مختفيًا إلا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهمًا، واختصر عنزته -العنزة: مثل نصف الرمح أو أكبر شيئًا، واختصرها: يعني أمسكها بيده رضي الله تعالى عنه- ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف -رضي الله عنه- سبعًا متمكنًا ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس -يعني: الأنوف- من أراد أن تثكله أمه ويرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي. قال علي -رضي الله عنه- فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم وأرشدهم ومضى لوجهه -رضي الله تعالى عنه.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص -جمع قميص- فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علَيّ عمر وعليه قميص اجتره -قميص اجتره: يعني أنه أنزل من غيره- قالوا: فما أولته يا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: الدين)).

وقد استشكل هذا الحديث بعض الناس، وذهبوا إلى أن بذلك عمر -رضي الله عنه- أفضل من أبي بكر الصديق، والجواب عن ذلك بأن أبا بكر -رضي الله عنه- هو أفضل هذه الأمة، ولذلك أجيب عن هذا الحديث بأن أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- يخصص من قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((عرض علي الناس)) فلعل الذين عرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- وأن كون عمر عليه قميص يجره، لا يستلزم أن لا يكون على أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- قميص أطول منه وأسبغ، وقد ذكر ذلك الإمام الحافظ بن حجر -رحمه الله تبارك وتعالى- ولقد كان عمر -رضي الله عنه- حريصًا كل الحرص على طلب العلم، بل كان من أصحاب الهمم العالية فيه.

<<  <   >  >>