أَخْبَرَنَا بِهَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفِيدِ، وَحَدَّثَنَا بِهَا عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الْعُثْمَانِيُّ، ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَبَلِيُّ قَالَ: كَتَبَ الْجُنَيْدُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ الْمَارِسْتَانِيِّ رِسَالَةً فِيهَا: «يَا أَبَا إِسْحَاقَ، لَا ضَيَّعَ اللَّهُ مَيْلِي إِلَيْكَ وَلَا إِقْبَالِي عَلَيْكَ أَنَا عَلَيْكُ عَاتِبٌ وَاجِدٌ وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِكَ غَيْرُ حَامِدٍ أَرَضِيتَ أَنْ تَكُونَ لِبَعْضِ عُبَيْدِ الدُّنْيَا عَبْدًا؟ أَوْ يَكُونَ بِطَاعَتِكَ لَهُ عَلَيْكَ مُهَيْمِنًا وَرَبَّا يَتَخَوَّلُكَ بِبَعْضِ مَا يُعْطِيكَ وَيَمْتَهِنُكَ بِيَسِيرِ مَا يُزْرِيكَ مُبْتَذِلًا لَكَ ثُمَّ يُدَنِّسُكَ بِأَوْسَاخِ وَضَرِهِ وَيَجْتَذِبُكَ بِمَأْثُورِ ضَرَرِهِ فَسُبْحَانَ مَنْ بَسَطَ إِلَيْكَ بِهِ رَحْمَتَهُ وَرَأْفَتَهُ فَاسْتَنْقَذَكَ بِذَلِكَ مِنْ وَبَالِ مَا اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ وَمِلْتَ إِلَيْهِ لَقَدْ كِدْتَ أَنْ تَغْرَقَ فِي خِلْجَانِ بِحْرِهَا أَوْ تُهْلِكَ فِي بَعْضِ مَفَاوِزِهَا، وَلَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيَّ مِنَ الشُّكْرِ لِمَا جَدَّدَ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ وَوَهَبَ لِي مِنَ السَّلَامَةِ فِيكَ مَا لَا أَقُومُ بِهِ عَجْزًا عَنْ وَاجِبِ حَقِّهِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ بِهِ لِي عَنِّي وَأَنَا أَسْأَلُ الْمَنَّانَ الْمُتَطَوِّلَ بِفَضْلِهِ الْمُبْتَدِي بِكَرَمِهِ وَامْتِنَانِهِ أَنْ يَقُومَ لِي عَنِّي بِمَا قَصُرَ لَهُ بِي شُكْرِي بَادِئًا فِي ذَلِكَ بِالْحَمْدِ وَالْجُودِ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ بَلْ مَا لَا أُحْصِيهِ مِنْ نِعَمِهِ فَلَيْتَ شِعْرِي أَبَا إِسْحَاقَ، كَيْفَ مَعْرِفَتُكَ بِمَا جَدَّدَ لَكَ مِنْ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ وَزَوَى عَنْكَ مِنْ عَطَبِ فَرْطِ بَلَائِكَ وَكَيْفَ عِلْمُكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِكَ فِيمَا أَلْزَمَكَ الْمُنْعِمُ عَلَيْكَ وَالْمَنَّانُ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فِيمَا أَسْدَى إِلَيْكَ، أَلَكَ لَيْلٌ تَرْقُدُهُ أَمْ نَهَارٌ تَمْهَدُهُ أَمْ مُسْتَرَاحٌ عَنِ الْجَدِّ تَجِدُهُ أَمْ طَعَامٌ تَعْهَدُهُ أَمْ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ دُونَ ذَلِكَ تَقْصِدُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ نَائِبٍ عَنْكَ فِي وُجُوبِ حَقِّ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ فِيمَا جَدَّدَ بِهِ مِنْ عَتِيدِ الْبِرِّ لَدَيْكَ لَكِنَّهُ الْغَايَةُ الْمُمْكِنَةُ مِنْ فِعْلِكَ، وَالِاجْتِهَادُ فِي بُلُوغِ الْأَجْرِ مِنْ عَمَلِكَ فَكُنْ لَهُ بِأَفْضَلِ مَا هَيَّأَ لَكَ عَامِلًا، وَعَلَيْهِ بِهِ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِكَ مُقْبِلًا، ثُمَّ كُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَاضِعًا مُذْعِنًا ضَارِعًا مُعْتَرِفًا، فَإِنَّ ذَاكَ يَسِيرٌ مِنْ كَثِيرٍ وَجَبَ لَهُ عَلَيْكَ، وَبَعْدُ يَا أَخِي، فَاحْذَرْ مَيْلَ التَّأْوِيلِ عَنِ الْحَقَائِقِ وَخُذْ لِنَفْسِكَ بِأَحْكَمِ الْوَثَائِقِ، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ كَالصَّفَّاءِ الزَّلَّالِ الَّذِي لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْأَقْدَامُ وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ ⦗٣٣٣⦘ هَلَكَ مِنَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِالْفَضْلِ بِالْمَيْلِ إِلَى خَطَأِ التَّأْوِيلِ وَاسْتِيلَاءِ ذَلِكَ عَلَى عُقُولِهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى وَإِنِّي أُعِيذُكَ بِاللَّهِ وَأَسْتَعِينُهُ لَكَ وَأُعِيذُكَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْكَ جُنَّةً مِنْ جُنَّتِهِ وَوَاقِيَةً مِنْ وَاقِيَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَبَعْدُ يَا أَخِي كَيْفَ أَنْتَ فِي تَرْكِ مُوَاصَلَةِ مَنْ عَرَّضَكَ لِلتَّقْصِيرِ وَدَعَاكَ إِلَى النَّقْصِ وَالْفُتُورِ؟ وَكَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُبَايِنَتُكَ لَهُ وَهُجْرَانُكَ؟ وَكَيْفَ إِعْرَاضَ سِرِّكَ وَنُبُوِّ قَلْبِكَ وَعُزُوفِ ضَمِيرِكَ عَنْهُ؟ وَحَقِيقٌ عَلَيْكَ مَا وَهَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَخَصَّكَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ الْجَلِيلِ وَالْمَنْزِلِ الشَّرِيفِ أَنْ تَكُونَ عَنِ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الدُّنْيَا مُعْرِضًا وَأَنْ تَكُونَ لَهُمْ فِي بِلَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ شَافِعًا فَذَاكَ بَعْضُ حَقِّكَ وَحَرِيٌّ بِكَ أَنْ تَكُونَ لِلْمُذْنِبِينَ ذَائِدًا وَأَنْ تَكُونَ لَهُمْ بِفَهْمِ الْخِطَابِ إِلَى اللَّهِ رَائِدًا وَفِي اسْتِنْقَاذِهِمْ وَافِدًا فَتِلْكَ حَقَائِقُ الْعُلَمَاءِ وَأَمَاكِنُ الْحُكَمَاءِ، وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِبَادِهِ وَأَعَمُّهُمْ نَفْعًا لِجُمْلَةِ خَلْقِهِ جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنْ أَخَصِّ مَنْ أَخْلَصَهُ بِالْإِخْلَاصِ إِلَيْهِ وَأَقْرَبِهِمْ فِي مَحَلِّ الزُّلْفَى لَدَيْهِ»
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute