للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فَالسَّارُّ فِيهَا غَارٌّ وَالنَّافِعُ فِيهَا غَدًا ضَارٌّ، وُصِلَ الرَّخَاءُ فِيهَا بِالْبَلَاءِ، وَجُعِلَ الْبَقَاءُ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ، سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحَزَنِ، وَآخِرُ الْحَيَاةِ فِيهَا الضَّعْفُ وَالْوَهَنُ، فَانْظُرْ إِلَيْهَا نَظَرَ الزَّاهِدِ الْمُفَارِقِ، وَلَا تَنْظُرْ نَظَرَ الْعَاشِقِ الْوَامِقِ، وَاعْلَمْ أَنَّهَا تُزِيلُ الثَّاوِي السَّاكِنَ، وَتَفْجَعُ الْمَغْرُورَ الْآمِنَ، لَا يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ، وَلَا مَا هُوَ آتٍ فِيهَا فَيُنْتَظَرَ، فَاحْذَرْهَا فَإِنَّ أَمَانِيهَا كَاذِبَةٌ، وَإِنَّ آمَالَهَا بَاطِلَةٌ، عَيْشُهَا نَكَدٌ وَصَفْوُهَا كَدَرٌ، وَأَنْتَ مِنْهَا عَلَى خَطَرٍ، إِمَّا نِعْمَةٌ زَائِلَةٌ وَإِمَّا بَلِيَّةٌ نَازِلَةٌ، وَإِمَّا مُصِيبَةٌ مُوجِعَةٌ، وَإِمَّا مَنِيَّةٌ قَاضِيَةٌ، فَلَقَدْ كَدِرَتْ عَلَيْهِ الْمَعِيشَةُ إِنْ عَقَلَ، وَهُوَ مِنَ النَّعْمَاءِ عَلَى خَطَرٍ وَمِنَ الْبَلْوَى عَلَى حَذَرٍ، وَمِنَ الْمَنَايَا عَلَى يَقِينٍ، فَلَوْ كَانَ الْخَالِقُ تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْ عَنْهَا بِخَبَرٍ، وَلَمْ يَضْرِبْ لَهَا مَثَلًا، وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِزُهْدٍ؛ لَكَانَتِ الدَّارُ قَدْ أَيْقَظَتَ النَّائِمَ وَنَبَّهَتِ الْغَافِلَ، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَنْهَا زَاجِرٌ وَفِيهَا وَاعِظٌ؟ فَمَا لَهَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْرٌ، وَلَا لَهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَزْنٌ مِنَ الصِّغَرِ، وَلَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِقْدَارَ حَصَاةٍ مِنَ الْحَصَا، وَلَا مِقْدَارَ ثَرَاةٍ فِي جَمِيعِ الثَّرَى، وَلَا خَلَقَ خَلْقًا فِيمَا بُلِّغْتُ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا نَظَرَ إِلَيْهَا مُنْذُ خَلَقَهَا مَقْتًا لَهَا، وَلَقَدْ عُرِضَتْ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَفَاتِيحِهَا وَخَزَائِنِهَا وَلَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَمَا مَنَعَهُ مِنَ الْقَبُولِ لَهَا، وَلَا يَنْقُصُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَبْغَضَ شَيْئًا فَأَبْغَضَهُ، وَصَغَّرَ شَيْئًا فَصَغَّرَهُ، وَوَضَعَ شَيْئًا فَوَضَعَهُ، وَلَوْ قَبِلَهَا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى حُبِّهِ إِيَّاهَا قَبُولَهَا، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُحِبَّ مَا أَبْغَضَ خَالِقُهُ، وَأَنْ يَرْفَعَ مَا وَضَعَ مَلِيكُهُ، وَلَوْ لَمْ يَدُلَّهُ عَلَى صِغَرِ هَذِهِ الدَّارِ، إِلَّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَقَرَهَا أَنْ يَجْعَلَ خَيْرَهَا ثَوَابًا لِلْمُطِيعِينَ، وَأَنْ يَجْعَلَ عُقُوبَتَهَا عَذَابًا لِلْعَاصِينَ، فَأَخْرَجَ ثَوَابَ الطَّاعَةِ مِنْهَا وَأَخْرَجَ عُقُوبَةَ الْمَعْصِيَةِ عَنْهَا، وَقَدْ يَدْلُكُ عَلَى شَرِّ هَذِهِ الدَّارِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>