للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان المبرد يُعْنَى بالسماع عناية شديدة، ومضى في إثر أستاذه المازني لا يرتضي بعض القراءات الشاذة، ما دامت لا تطرد مع قواعده النحوية. وتشدد مثل سالفيه في قبول الرواية عن العرب، وكان يطعن في رواية بعض الأشعار المأثورة ما دامت لا تستقيم مع مقاييسه، حتى لو وردت عند سيبويه، فقد استشهد على تسكين المضارع في الضرورة الشعرية بقول امرئ القيس١:

فاليوم أشربْ غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل

وقال المبرد: ليست هذه هي الرواية الصحيحة للبيت, إنما روايته الصحيحة في مطلعه هي: "فاليوم فاشرب", وإذن يكون سكون الفعل طبيعيا؛ لأنه فعل أمر، ويقول ابن جني معنفا له: "اعتراض أبي العباس في هذا الموضع إنما هو رد للرواية وتحكم على السماع بالشهوة مجردة من النصفة، ونفسه ظلم لا من جعله خصمه"٢. وروى سيبويه والأخفش عن العرب قولهم: لولاك ولولاه، كما أسلفنا، ورفض المبرد روايتهما وما جاء عن بعض الشعراء من مثل: "لولاك هذا العام لم أحجج"، محتجا بمثل قوله تعالى: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي: إنه كان يحتم أن يليها الضمير مرفوعا٣.

وكان يحاول دائما أن يسند آراءه بالعلل، فلا بد لكل رأي من علة تبرره، وكان يتسع في ذلك سعة جعلته يعممه فيما لا حاجة للنطق به، من ذلك تعليله لمجيء الإعراب في آخر الكلم دون أوائلها وأواسطها، يقول: "لم يجعل الإعراب أولا؛ لأن الأول تلزمه الحركة ضرورة للابتداء؛ لأنه لا يُبتدأ إلا بمتحرك، ولا يوقف إلا على ساكن, فلما كانت الحركة تلزمه لم تدخل عليه حركة الإعراب؛ لأن الحركتين لا تجتمعان في حرف واحد. ولما فات وقوعه أولا لم يمكن أن يجعل وسطا؛ لأن أوساط الأسماء مختلفة لأنها تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وسباعية، فأوساطها مختلفة، فلما فات ذلك جُعل آخرا بعد كمال الاسم ببنائه وحركاته"٤. وكان يعلل تسكين الفعل في مثل ضربْنَ


١ الكتاب ٢/ ٢٩٧.
٢ الخصائص ١/ ٧٢, والخزانة ٢/ ٢٧٩، ٣/ ٥٣٠.
٣ الإنصاف ص٢٨٥, والمغني ص٣٠٢, وانظر تقريرات السيرافي على طبعة بولاق من كتاب سيبويه ١/ ٣٨٨.
٤ الزجاجي ص٧٦.

<<  <   >  >>