للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عِلَلا وراءها. وقانون القياس عام، وظلاله مهيمنة على كل القواعد إلى أقصى حد، بحيث يصبح ما يخرج عليها شاذا، وبحيث تفتح الأبواب على مصاريعها ليقاس على القاعدة ما لم يسمع عن العرب ويحمل عليها حملا، فهي المعيار المحكم السديد.

وعلى هذه الشاكلة شادت البصرة صرح النحو ورفعت أركانه، بينما كانت الكوفة مشغولة عن ذلك كله، على الأقل حتى منتصف القرن الثاني للهجرة، بقراءات الذكر الحكيم ورواية الشعر والأخبار, وقلما نظرت في قواعد النحو إلا ما سقط إلى بعض أساتذتها من نحاة البصرة إذ كانوا يتتلمذون لهم ويختلفون إلى مجالس محاضراتهم وإملاءاتهم. وكان القدماء يعرفون ذلك معرفة دقيقة, فنصوا عليه بعبارات مختلفة، من ذلك قول ابن سلام: "وكان لأهل البصرة في العربية قدمة, وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية"١, ويصرح ابن النديم في هذا المجال تصريحا أكثر وضوحا إذ يقول في حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة: "إنما قدمنا البصريين أولا؛ لأن علم العربية عنهم أخذ"٢. وحاول بعض المستشرقين أن يصلوا بين نشوء النحو في البصرة والنحو السرياني واليوناني الهندي, غير أنه لا يمكن إثبات شيء من ذلك إثباتا علميا وخاصة أن النحو العربي يدور على نظرية العامل وهي لا توجد في أي نحو أجنبي، وكل ما يمكن أن يقال: إنه ربما عرف نحاة البصرة الأولون أن لبعض اللغات الأجنبية نحوا، فحاولوا أن يضعوا نحوا للعربية راجعين في ذلك إلى ملكاتهم العقلية التي كانت قد رقيت رقيا بعيدا بتأثير ما وقفوا عليه من الثقافات الأجنبية، وخاصة الفلسفة اليونانية وما يتصل بها من المنطق، مما دعم عقولهم دعما قويا، وجعلها مستعدة لأن تستنبط قواعد النحو وعلله وأقيسته.

ويظهر أنه كُفل للبصرة من الصلة بهذه الثقافات في القرن الثاني للهجرة ما لم يكفل للكوفة، فقد كانت مرفأ تجاريا للعراق على خليج العرب. فنزلتها


١ ابن سلام ص١٢.
٢ الفهرست ص١٠٢.

<<  <   >  >>