عناصر أجنبية كثيرة أعدت في سرعة لوصلها بثقافاتها المختلفة، وأيضا فإنها كانت أقرب من الكوفة إلى مدرسة جُنْدَيْسابور الفارسية التي كانت تدرس فيها الثقافات اليونانية والفارسية والهندية، مما جعل جداول من تلك الثقافات تصب فيها؛ ولذلك كان طبيعيا أن نجد بها أقدم المترجمين، ونقصد ماسرجويه الذي عهد إليه عمر بن عبد العزيز بترجمة كتيب في الطب، ولا نلبث أن نلتقي بابن المقفع الذي نشأ بها وتوفي سنة ١٤٣ للهجرة وكان يتقن الفارسية، ويحذق العربية فترجم إليها أروع ما في الفارسية من كنوز تاريخية وأدبية، كما ترجم كليلة ودمنة الهندية منها، وكذلك منطق أرسططاليس.
وبذلك نفهم السر في أن عقل البصرة كان أدق وأعمق من عقل الكوفة وكان أكثر استعدادا لوضع العلوم، إذ سبقتها إلى الاتصال بالثقافات الأجنبية وبالفكر اليوناني وما وضعه أرسططاليس من المنطق وحدوده وأقيسته. ويمكن أن نلاحظ آثار ذلك في نشاط المباحث الدينية في البلدتين، فقد عُنيت الكوفة بالفقه بينما عُنيت البصرة بعلم الكلام، وحقا أشاع أبو حنيفة في الفقه القياس والرأي أو الاجتهاد، ولكن من يرجع إلى كتب الفقه الحنفي حتى في العصور المتأخرة يلاحظ أنه ينقصها دائما شيء من التعميم والتعريف ووضع القواعد الكلية, فباب البيع مثلا يفتح، ولا يصاغ له تعريف محدد، ولا تذكر له أركان وشروط، وإنما مسائل متناثرة يتوالى بعضها في إثر بعض. وهكذا دائما في الفقه الحنفي يغلب أن يفتح الباب على فروع دون أصول عقلية تضم شعبها الكثيرة. بينما علم الكلام يناقش مسائل كلية، وهي مسائل ميتافيزيقية، والمسألة تثار في ضوء تفكير فلسفي معقد، مما يدل على صلة المتكلمين العميقة بالفلسفة اليونانية، حتى لنرى الجاحظ يقول:"لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام, متمكنا في الصناعة, يصلح للرياسة حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة"١.
فعقل كل من البلدتين كان مختلفا: عقل مصبوغ بالصبغة الفلسفية المنطقية،