للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في إنّ الكسر حين تقع جوابا لقسم مثل: "والله إن محمدا مسافر" لكثرة ذلك في السماع عن العرب، وخالفهم الكسائي، فجوز الكسر والفتح واختار فتحها مع ندرته في السماع١. ومن ذلك أنه جوز العطف بالرفع على المفعول الأول لظن إذا كان المفعول الثاني فعلا، فيقال: "أظن محمدا وعلي سافرا" ولم يسند ذلك بأي سماع أو أي شاهد عن العرب، ولعل ذلك ما جعل الفراء تلميذه يقف في صفوف البصريين منكرا هذا الحكم الغريب٢. ومن ذلك أنه كان يجيز في الاختيار تقديم الحال على صاحبها مثل: "زيد طالعةً الشمس" وهو حكم لا يتفق ومنطق التعبير وسياقه٣. وربما كان أغرب ما انتهى إليه هو وتلميذه الفراء من حكم لا يسنده أي سماع, ولا أي شاهد ما ذهبا إليه من بناء فعلي "كان وجعل" للمجهول, فيقال: "كين قائم وكين يقام وجُعل يُفعل" بنيابة الخبر عن الاسم مع الفعلين الناقصين، إذ يريدان "جعل" التي تدخل في أفعال المقاربة, وهي صياغات غريبة؛ ولذلك أنكرها الرضي في شرحه على الكافية إنكارا شديدا٤.

ولعل في ذلك وأمثاله مما نجده عند الكسائي ونحاة الكوفة ما يدل أكبر الدلالة على خطأ من يحاولون رفع المدرسة الكوفية فوق المدرسة البصرية في الحس اللغوي وتبين روح اللغة, زاعمين أنهم لم يكونوا يتعدون الرواية والسماع وهم قد تعدوهما كثيرا، كما تعدوا حدود القياس السديد. وقد حاولوا -جاهدين- أن يخالفوا سيبويه وغيره من نحاة البصرة في كثير من وجوه الإعراب والتقدير في العبارات، مما جرهم في كثير من الأمر إلى صور مختلفة من التعقيد والبعد في التأويل، فمن ذلك إعراب الأسماء الخمسة: "أبوك وأخواتها", فقد كان سيبويه وجمهور البصريين يرون أنها معربة بحركات مقدرة في الحروف, أي: في الواو رفعا والألف نصبا والياء جرا، وذهب الأخفش إلى أنها معربة بحركات مقدرة على ما قبل تلك الحروف، بينما ذهب الكسائي -وتبعه الفراء- إلى أنها معربة من مكانين بالحروف والحركات السابقة لها معا، غير ملتفتين إلى أن علامات الإعراب إما أن تكون


١ الهمع ١/ ١٣٧.
٢ الهمع ٢/ ١٤٥.
٣ الهمع ١/ ٢٤٢.
٤ الرضي على الكافية ١/ ٧٤, والهمع ١/ ١٦٤.

<<  <   >  >>