للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومعنى ذلك كله أن الفراء عُني منذ نشأته في الكوفة والبصرة بالوقوف على ثقافات عصره الدينية والعربية والكلامية والفلسفية والعلمية، ويشهد بذلك معاصروه، فيقول ثمامة بن أشرس وقد جلس إليه بأخرة من حياته: "جلست إليه، ففاتشته عن اللغة، فوجدته بحرا، وفاتشته عن النحو، فوجدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدته رجلا فقيها عارفا باختلاف القوم، وبالنجوم ماهرا، وبالطب خبيرا، وبأيام العرب وأخبارها وأشعارها حاذقا". ويصفه مترجموه بالتفلسف في تصانيفه, وأنه كان يستعمل فيها ألفاظ الفلسفة.

وقد تعمقه ميل شديد لإتقان العربية، والعناية بالقرآن الكريم وقراءاته وتفسيره, وعاد إلى مسقط رأسه بعد أن حمل من ذلك أزوادا كثيرة. وكانت شهرة مواطنه الكسائي قد أخذت تدوي في بلدته، فرحل إلى بغداد، ولزمه منذ عصر المهدي١، وأخذ كل ما عنده. ويظهر أن أستاذه عرَّف الرشيد به، إذ نراه يحضر مجالسه. ومضى يفرغ للنحو واللغة والقرآن، حتى إذا وجد أستاذه يطلب كتاب سيبويه ويمليه عليه الأخفش انقض على هذا الكتاب يلتهمه التهاما، ويلتهم معه كتابات الأخفش في النحو، ومن طريف ما يروى عنه أنه مات وتحت رأسه الكتاب، وكأنه لم يكن يفارقه. وأكبر الظن أن هذه النسخة للكتاب التي وُجدت تحت رأسه هي نفسها النسخة التي أهداها الجاحظ إلى ابن الزيات وزير المعتصم والواثق، إذ ذكر الرواة أنه أهداه كتاب سيبويه بخط الفراء وعرض الكسائي ومقابلته، فتقبله قبولا حسنا، شاكرا مثنيا٢.

وقد مضى في إثر أستاذه يكثر من الرواية عن الأعراب الذين نزلوا بغداد، غير ملتفت لطعن البصريين فيهم وفي أمثالهم ممن اختلطوا بأهل الحضر. وتدور في كتابه معاني القرآن روايات كثيرة عن جماعة, منهم في مقدمتها: أبو دثار الفقعسي وأبو زياد الكلابي وأبو ثروان وأبو الجراح العقيلي، فقد وجد عندهم مادة وفيرة من الشعر واللغة.

ونظن ظنا أنه تصدر للمحاضرة والإملاء على الطلاب في مسجد كان بجوار


١ مجالس العلماء للزجاجي، ص٢٦٩.
٢ إنباه الرواة ٢/ ٣٥١.

<<  <   >  >>